غزو بدر الكبرى
·
مقدمة :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
أما بعد؛
فقد ذكر سبحانه وتعالى القصص في القرآن
الكريم، ومنها قصص الأنبياء وأقوامهم، وقصص الأولين والسابقين، وأحوالهم، وجعل
فيها العبر والعظات، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
ٱلأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
وكان آخر الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله
عليه وسلم، الذي غطت كتب التفسير والحديث والتاريخ وغيرها سيرته العطرة الممتلئة
بالفوائد والدروس والعبر، التي تعتبر منهاجًا متكاملاً تسير عليه الأمم نحو صلاحها
وفلاحها في الدنيا والآخرة.
وقد قامت مؤسسة آل البيت الملكية للفكر
الإسلامي في المملكة الأردنية الهاشمية مشكورة بالدعوة إلى عقد مؤتمرها العام
السابع عشر بعنوان: “نحو جدول تاريخي لأحداث السيرة”، وتشرفت بتلقي الدعوة
للمشاركة بتقديم بحث بشأن استخلاص يوميات مؤرخة ومفصلة لحياة النبي صلى الله عليه
وسلم، من روايات السيرة النبوية، فتوجهت إلى كتابة بحث عنوانه: “غزوة بدر الكبرى –
دروس وعبر”.
· أحداث غزوة بدر الكبرى
يتعرض هذا المبحث لأحداث غزوة بدر الكبرى
بشكل مختصر، فتفاصيل المعركة لا يتسع المقام لذكرها وقبل الخوض في تلك الأحداث،
يحسن الوقوف عند مراحل تشريع الجهاد في الإسلام.
·
مراحل تشريع الجهاد:
وقعت معركة بدر الكبرى في العهد المدني،
وقد مر الجهاد خلال بعثته صلى الله عليه وسلم بمراحل، وهذا عرض موجز لها:
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى
دين الله عز وجل في مكة، وكان أمر الله سبحانه وتعالى في تلك الفترة بكف الأيدي،
والصبر، والعفو، والصفح، وجهاد المشركين بالدعوة، والقرآن، والحجة، قال تعالى:
{كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ} [النساء:
77]، وقال: {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
أَيَّامَ ٱللَّهِ} [الجاثية: 14] وقال: {فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ} [الحجر:
85]، وقال: {فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً}
[الفرقان: 52]، أي: بالقرآن.
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى
المدينة، وأمر أصحابه بالهجرة إليها، فأذن الله للمسلمين بالقتال دفاعًا عن النفس،
ودَفْعًا للظلم، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقال:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
ثم جاء الأمر بقتال الكفار كافة؛ لتمكين
العقيدة من الانتشار دون عقبات، ولصرف الفتنة عن الناس؛ ليتمكنوا من اختيار الدين
الحق بإرادتهم، فيكون الدين كله لله، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ
كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ} [البقرة: 193]، وقال:
{قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ
مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]
·
تأريخ المعركة وموقعها:
وقعت معركة بدر في صبيحة يوم الإثنين
السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، وبدر ماء مشهور بين مكة والمدينة
أسفل وادي الصفراء، بينه وبين الجار؛ وهو ساحل البحر ليلة .
·
سبب المعركة وعدة الجيشين:
بعد الإذن بالجهاد في العهد المدني، بلغ
المسلمون تحرك قافلة كبيرة تحمل أموالاً عظيمة لقريش عائدة من الشام بقيادة أبي
سفيان، صخر بن حرب، فانتدب النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه للخروج، وتعجل بمن
كان مستعدًا للخروج دون انتظار سكان العوالي لئلا تفوتهم القافلة، ولذلك لم يكن
خروج المسلمين بكامل طاقتهم العسكرية في معركة بدر، فهم خرجوا لأخذ القافلة، ولم
يكن في حسبانهم مواجهة جيش قريش.
وقد خرج من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر
رجلاً، منهم من الأنصار بضع وأربعين ومائتين، ولم يكن معهم إلا فرسان، وسبعون
بعيًرا يتعاقبون على ركوبها .
وعلم أبو سفيان بخروج المسلمين لأخذ
القافلة، فسلك بها طريق الساحل، وأرسل لاستنفار أهل مكة، فاستعدت قريش للخروج
دفاعًا عن قافلتها، وحشدت كل طاقتها، ولم يتخلف منهم إلا القليل، فقد رأت قريش في
ذلك حطًا لمكانتها، وامتهانًا لكرامتها، وضربًا لاقتصادها، وبلغ عددهم نحوًا من
ألف مقاتل، ومعهم مائتا فرس يقودونها .
·
ما قبل المعركة:
ظهرت الخلافات في جيش المشركين بعد نجاة القافلة بين مريد للعودة دون قتال المسلمين حتى لا تكثر الثارات بين الطرفين، وبين مصر على القتال كأبي جهل، وقد غلب رأي أبي جهل أخيرًا، ولم يعد هدف قريش نجاة القافلة، بل تأديب المسلمين، وتأمين طرق التجارة، وإعلام العرب بقوة قريش وهيبتها.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة
القافلة، وإصرار قريش على قتاله صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه عامة، وقصد
الأنصار خاصة فتكلم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، والمقداد بن عمرو من
المهاجرين، فقالوا وأحسنوا، وفهم سعد بن رضي الله عنه عنه مراد النبي صلى الله
عليه وسلم فقال وأحسن فسر النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن معاذ رضي الله عنه
.
وصل المسلمون إلى بدر قبل المشركين، وأشار
الحبُاَبُ بن المنذر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ماء بدر
خلفه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورته وأخذ برأيه .
وبين صلى الله عليه وسلم مصارع رجال من أهل
بدر بأسمائهم، فقال: «هذا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إن شَاءَ الله تَعَالى، وَهَذَا
مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إن شَاءْ الله تَعَالى»
.
وأنزل سبحانه وتعالى النعاس والماء على
المسلمين في الليلة التي كانت قبل يوم المعركة، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ
ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً
لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، وبات صلى الله
عليه وسلم يصلي إلى شجرة، ويدعو ربه حتى أصبح، فلما طلع الفجر صلى بالناس، وحرض
على القتال .
·
في يوم المعركة:
في صبيحة يوم المعركة جعل صلى الله عليه
وسلم جيشه في صفوف للقتال، وبقي صلى الله عليه وسلم في قبة -بمشورة سعد بن معاذ–
يدير المعركة، وجعل صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء ربه، حتى سقط رداؤه، فأتاه
أبو بكر، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله
عز وجل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ
بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فخرج وهو يقول:
{سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُر} [القمر: 45]، 1845/4 ، ومسلم، صحيح
مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، 3/
1384 .’] .
ورمى صلى الله عليه وسلم المشركين في
وجوههم بالحصى، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ
رَمَىٰ} [الأنفال: 17]، فأثبت سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ابتداء
الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه صلى الله عليه وسلم .
وبدأت المعركة بتقدم عتبة بن ربيعة، وتبعه
ابنه الوليد، وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فخرج لهم شباب من الأنصار، فرفضوا
مبارزتهم طالبين مبارزة بني عمومتهم، فأمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب،
وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، فقتل حمزة عتبة، وقتل علي
شيبة، وأثخن عبيدة والوليد كل واحد منهما صاحبه، ثم مال علي وحمزة على الوليد
فقتلاه، واحتملا عبيدة، وتأثرت قريش بنتيجة المبارزة، وبدأت الهجوم.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه برمي
المشركين بالنبل إذا اقتربوا من المسلمين ودنوا .
ثم التقى الجيشان في ملحمة كبيرة، وأمد
الله سبحانه وتعالى المسلمين بالملائكة يوم المعركة، قال تعالى: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ
ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ
إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9-10]، وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ
وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، وعن رفاعة بن رافع
الزُّرَقِيِّ، قال: «جاء جِبرِيلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما
تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قال: من أَفْضَلِ المُسْلِمِينَ، قال:
وَكَذَلِكَ من شَهِدَ بَدْرًا من المَلائِكَةِ » .
·
نتائج المعركة:
قتل من المشركين سبعون رجلاً، منهم الذين
بَبّنَ صلى الله عليه وسلم مصارعهم من أهل بدر بأسمائهم قبل المعركة، ما أخطأ أحد
منهم الموضع الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان من بين القتلى عدد من زعماء قريش،
منهم: أبو جهل، عمرو بن هشام، قتله معاذ بن عمرو ابن الجموح، ومعاذ بن عفراء وهما
غلامان، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وأمية بن خلف، قتله وابنه عليًا بلال بن
رباح، مع فريق من الأنصار، وغيرهم. وأمر صلى الله عليه وسلم بسحب قتلى المشركين
إلى آبار ببدر، فألقوا فيها. وكان عدد الأسرى من قريش سبعون رجلاً .
وفر بقية المشركين، لا يلوون على شيء،
تاركين وراءهم غنائم كثيرة في أرض المعركة.
ودفن صلى الله عليه وسلم شهداء المسلمين،
وهم أربعة عشر شهيدًا .
وأقام صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة
أيام، فلما كان اليوم الثالث، أتى بئرًا فقذف فيها أربعة وعشرين من صناديد قريش،
فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، قائلاً: «يا فُلانُ بن فُلانٍ، وَيَا فُلانُ
ابن فُلانٍ، أَيَ سر سُّركُمْ أَنَكُمْ أَطَعْتُمْ الله وَرَسُولَهُ؛ فإنا قد
وَجَدْنَا ما وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا»(33). ولم يطلب صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان بعد المعركة.
·
الأسرى:
استشار صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر بن
الخطاب، رضي الله عنهما، في الأسرى، فرأى أبو بكر، رضي الله عنه – مراعيًا القربى
التي بينهم- أن يأخذ منهم الفدية حتى تكون لهم قوة على الكفار، وعسى الله أن
يهديهم للإسلام، ورأى عمر، رضي الله عنه، أن يضرب أعناقهم؛ لأنهم أئمة الكفر
وصناديدها، فأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة أبي بكر، رضي الله عنه، فنزل القرآن
مؤيدًا رأي عمر، رضي الله عنه؛ فعاتبهم الله عز وجل لتفضيل الفداء على معاقبة أئمة
الكفر، وأحل لهم ما أخذوا من فداء .
وقد تباين فداء الأسرى، فجعل صلى الله عليه
وسلم فداء من كان ذا مال أربعة آلاف درهم، وفداء من لم يكن له مال تعليم أبناء
الأنصار الكتابة، ولم يكن هدفه صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى جمع المال، فقد
قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان مُطْعِمُ بن عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَ كَلَمَنِي في
هَؤُلاءِ النتْنَى، لأَطْلَقْتُهُمْ له»، ولم يحاب صلى الله عليه وسلم في فداء
الأسرى، فقد استأذن رجال من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ترك فداء
العباس، فأبى، على الرغم من أنه أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان مسلما .
وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي
معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، فقد كانا من أئمة الكفر، ممن يؤذون المسلمين في
مكة. واستوصى صلى الله عليه وسلم ببقية الأسرى خيرًا .
·
الغنائم:
لم ينزل بتوزيع الغنائم تشريع قبل معركة
بدر، ولذلك حدث خلاف حولها، فقد أكبت طائفة على الغنائم، يحوونها ويجمعونها،
وانطلقت طائفة أخرى في طلب العدو يلاحقونهم، وأحدقت طائفة ثالثة برسول الله صلى
الله عليه وسلم، يحمونه، فادعت الأولى أنها أحق بالغنائم؛ لأنها جمعته، وادعت
الثانية أنها أحق به؛ لأنها هزمت العدو، وادعت الثالثة أنها أحق به؛ لأنها اشتغلت
بحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ
قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ
بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال:
1]، فقسمها صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، بعد أن أخرج الخمس من الغنيمة .
وقد ضرب صلى الله عليه وسلم لتسعة من
الصحابة لم يحضروا الغزوة لأعمال كلفهم بها، ومنهم: عثمان بن عفان، رضي الله عنه .
وذهب الخلاف وتلاشى بعد بيان حكم الغنائم،
وثاب الناس إلى طاعة الله ورسوله.
·
وقع المعركة:
تلقى المسلمون في المدينة الخبر بالبشارة
والفرح الغامر، مع الحذر ألا يكون الخبر صادقًا؛ كما حدث مع أسامة بن زيد، رضي
الله عنه، حين قال: « فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى »، وعلت الدهشة وجوههم،
فكيف هزمت قريش، وقتل زعماؤها، وتحطم كبرياؤها، وذلك كما حدث مع سودة بنت زمعة،
رضي الله عنها، حين لم تتمالك نفسها لما رأت سهيل بن عمرو مجموعة يداه إلى عنقه .
وأما قريش في مكة فلم تكد تصدق ما حدث لها،
فقد أصاب ساداتها وأبطالها القتل والأسر، ولكنها تجلدت، ومنعت البكاء والنياحة على
قتلاها حتى لا يشمت بهم المسلمون، وصممت على الانتقام والثأر، فأرسلت عمير بن وهب
الُجْمَحِيَّ لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن وعده صفوان بن أمية
بإعالة أهله إن قتل، لكن خطتهم باءت بالفشل، وأسلم عمير بن وهب، رضي الله عنه،
وكذلك اشترت قريش اثنين من أسرى المسلمين، وهما حبيب الأنصاري وزيد بن الدثنة، رضي
الله عنهما، فقتلتهما .
·
آثار المعركة:
كان لموقعة بدر آثار كثيرة، منها:
1. تعتبر
موقعة بدر رغم صغر حجمها معركة فاصلة في تاريخ الإسلام، ولذلك سماها الله عز وجل
بيوم الفرقان، قال تعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ
يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، ففرق بها سبحانه بين الحق والباطل؛
فأعلى فيها كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه، ونصر نبيه وحزبه .
2. ظهر في
هذه الموقعة استعلاء العقيدة الإسلامية على سائر المصالح والمطامع الدنيوية، فقد
أعلن الأنصار طاعتهم وتضحيتهم من أجل عقيدتهم، لا تحدهم العهود التي قطعوها في
بيعة العقبة الثانية، وواجه المهاجرون أقاربهم في المعركة؛ فقاتل الابن أباه،
والأخ أخاه، ولم تمنعهم أواصر القربى من قتلهم، أو محاربتهم؛ لأن العقيدة فوق كل
علاقة وارتباط.
3. نال
المسلمون المشاركون في معركة بدر مغفرة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:
«لَعَلَ الله اطَلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ
غَفَرْتُ لَكُمْ »، واستحقوا المنزلة الرفيعة والتقدير الكبير، ولازمهم وصف
«البدريون»، وكونوا الطبقة الأولى من الصحابة، واحتلوا أوائل التراجم في كتب
الطبقات، وأعطاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلى العطاء، فنالوا التكريم الأدبي
والمادي.
4. علت أصداء
موقعة بدر المدينة، ومكة، وأرجاء الجزيرة العربية، واستعلى المسلمون في المدينة
على اليهود وبقايا المشركين، مما أغاظهم، وأظهر أحقادهم، واندفع اليهود نحو
العدوان، فأدى ذلك إلى إجلاء بني قينقاع عن المدينة.
5. دخل
الكثيرون في الإسلام، ودخل بعضهم حماية لمصالحه، بعد رجحان كفة المسلمين، فبدأ
نشأة جبهة المنافقين، وكان على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول.
· دروس وعبر من غزوة بدر الكبرى
بعد الاطلاع على مجمل أحداث غزوة بدر
الكبرى، يمكن استخلاص بعض الدروس والعبر منها، على النحو الآتي:
·
ما قبل المعركة:
1) أهمية
الأخذ بالأسباب، ومنه تقصي أخبار العدو، فقد أرسل صلى الله عليه وسلم عدي بن أبي
الزغباء وبَسْبَس بن عمرو الجهني، طليعةً يوم بدر، فرجعا إليه صلى الله عليه وسلم
بخبر القافلة .
2) ظهور
الصبغة العقائدية على أولى الملاحم الإسلامية، حيث التحق أحد شجعان المشركين
بالمسلمين في الطريق إلى بدر ليصيب معهم، فأبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلم الرجل،
والتحق بالمسلمين .
3) استواء
القائد والجند في تحمل الشدائد والمصاعب، فها هو صلى الله عليه وسلم يتعاقب مع علي
بن أبي طالب وأبي لبابة على بعير واحد، ويأبى أن يؤثراه، ويقول: «مَا أَنْتُما ما
بِأَقْوَى مِنِّي، وَلا أَنَا بأِغْنىَ عَنِ الأجْرِ مِنكُما»، فكيف لا يحتمل
الجند المشاق وقائدهم يسابقهم في ذلك؟!
4) أهمية
الأمير ودوره في الحضر والسفر، فقد استعمل صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على
الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة .
5) تطبيق
مبدأ الشورى، وتعويد الأمة على ممارستها، وبيان أهميتها، بخاصة في الأمور المصيرية
كالحروب، ومنه ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حين استشار أصحابه وأراد الأنصار،
وقبوله صلى الله عليه وسلم بمشورة الحباب بن المنذر بشأن ماء بدر، وفيه تعويد
للصحابة على التفكير بالمشكلات العامة، والتربية على الشعور بالمسؤولية.
6) الأدب مع
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالشريعة، ويظهر ذلك حين عرض الحباب بن
المنذر خطته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أرأيت هذا المنزل،
أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب
والمكيدة؟ » .
7) أهمية
حماية القائد في المعركة، ويظهر ذلك من بناء الصحابة عريشًا للنبي صلى الله عليه
وسلم، خلف الجيش يدير منه المعركة، وتوفير الحراسة الكافية له.
8) حب
الشهادة والتعلق بالجنة، ومنه ما فعله عُمَ ير يُر بن ا لح لحمُا مامِ الأنصاري،
حين رمى التمرات من يده لما قال صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلى جَنةٍَ
عَرْضُهَا السَمَوَاتُ وَالأَرْضُ» .
9) الوفاء
بالعهد، ومنه ما حدث مع حذيفة بن اليمان ووالده، حين أخذ المشركون منهم العهد ألا
يقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: «نستعينُ اللهَ عليهمْ، وَنَفِي بِعَهْدِهِمْ»، فذاك الذي منعهما أن
يشهدا بدرًا .
10)
الحرص على الرعية، ومراعاة الفروق الفردية
بين أفرادها، والاختيار المناسب للمهمة الموكلة، ومنه رده صلى الله عليه وسلم
للبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، لصغر سنهما .
·
أثناء المعركة:
التنويع في استخدام الأساليب الحربية
المختلفة، والتفكير بالجديد منها، ومن ذلك:
أ. ما فعله صلى الله عليه وسلم، من جعل
المسلمين في صفوف للقتال، على خلاف عادة العرب في استخدام أسلوب الكر والفر.
ب. أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه برمي
المشركين بالنبل إذا اقتربوا، والاحتفاظ بها إذا ابتعدوا، حرصًا على الإفادة من
النبال، أقصى ما يستطاع.
استغلال من الظروف الطبيعية أثناء القتال،
ومنه ما فعل صلى الله عليه وسلم حين استقبل المغرب وجعل الشمس خلفه، فاستقبل
المشركون الشمس، وكانت في وجوههم.
العدل ومحاسبة القائد، وقبول القائد
المحاسبة، ومنه ما فعله سَوَاد بن غَزِيَة الأنْصَارِيّ حين طلب القود من النبي
صلى الله عليه وسلم، لما طعنه صلى الله عليه وسلم حين كان خارجًا عن الصف .
أهمية الدعاء، ومنه إكثاره صلى الله عليه
وسلم من الدعاء حتى سقط رداؤه وهو في العريش.
أهمية اتصاف القائد ببعد النظر، والاعتماد
على الله تعالى، والأخذ بالأسباب مع الدعاء، ويظهر ذلك في دعائه صلى الله عليه
وسلم؛ حين قال: «اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللهم آتِ ما وَعَدْتَنِي،
اللهم إن تهْلِكْ هذه الْعِصَابَةَ من أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ في الأرض» .
·
إمداد الله تعالى المؤمنين
بالملائكة:
الحكمة من نزول الملائكة هي تحصيل ما يكون
سببًا لانتصار المسلمين؛ من بشارتهم بالنصر، وتثبيت المؤمنين، وتقوية قلوبهم،
واشتراك الملائكة الفعلي في القتال، وشكلت هذه المشاركة عاملاً قوياً في تحطيم
معنوية الكفار وزعزعتهم حين يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة.
وقد مضت سنة الله تعالى في خلقة بتدافع
الحق والباطل، وأن تكون الغلبة بين الحق والباطل وفقًا لسنن الله تعالى في الغلبة
والانتصار، فالجهة الأقوى الحاصلة على معاني القوة اللازمة للغلبة هي التي تغلب،
ومن ثمرات الإيمان الصادق حصول أهل الحق على التأييد من الله تعالى والإمداد بما
يستلزم نصرهم وغلبتهم على الباطل وأهله بعد أخذهم بالأسباب الأخرى المادية.
ورعاية صورة الأسباب وسننها كانت سببًا في
إمداد الله تعالى المؤمنين بالملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة
من جناحه، وذلك حتى يكون الفعل للنبي ،صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة
مددًا للمؤمنين على عادة مدد الجيوش .
·
دروس وعبر عامة:
1)
حتمية انتصار هذا الدين وأهله، حتى وإن
تباينت المفارقة بين أهل الحق وأهل الباطل في العدة والعتاد.
2)
حقيقة النصر هي من عند الله تعالى، قال
تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ
وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الانفال:
10]
3)
تحقيق النصر يحتاج إلى اجتماع الأخذ
بالأسباب المادية والمعنوية بالقدر المستطاع، والتوكل الصادق على الله عز وجل،
فيكون بذلك التوفيق الرباني في تهيئة أسباب النصر مع التأييدات الربانية.
4)
إحقاق الحق، وإبطال الباطل، لا يكونان فقط
بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ويظهر ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ
ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ
ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ
وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7- 8]
5)
علو العقيدة الإسلامية على سائر المصالح
والمطامع الدنيوية، ويظهر ذلك في تعدي الأنصار العهود التي قطعوها في بيعة العقبة
الثانية من أجل عقيدتهم، وكذلك مواجهة المهاجرين أقاربهم وأهليهم في المعركة.
6)
استحقاق المنزلة الرفيعة، والتقدير الكبير،
بالأعمال الصالحة والعظيمة. إلى غير ذلك من الدروس والعبر الكثيرة والعظيمة.
· الخاتمة
في نهاية رحلتنا مع بحث عن غزوة بدر الكبرى مع المراجع،
مرت الأعوام الكثيرة عن غزوة بدر، وما زلنا نتذكرها حتى الآن، حيث أنها الغزوة الأولى
التي عملت على تأسيس الدولة الإسلامية، وقد قسمت ظهر المشركين، ومات فيها الكثير منهم،
وإلى الآن تعتبر غزوة بدر هي أول غزوة أثبتت صدق الله ورسوله وصدق المؤمنين في الإيمان.
https://abhaskom.blogspot.com/