القائمة الرئيسية

الصفحات


قابيل وهابيل 

https://abhaskom.blogspot.com


مقدمه

إذا مات العبد ، وقد فعل أفعالا مخالفة للشرع ، فاقتدى به فيها غيره من ولد أو صاحب أو جار أو غيرهم : فإن عليه وزر ما فعل ، ووزر من فعل فعله مقتديا به فيه ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ؛ لما رواه مسلم (1017) عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ . وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ) .
قال ابن علان :
"(ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة) : معصية وإن قلَّت ، بأن فعلها فاقتِدي به فيها ، أو دعا إليها ، أو أعان عليها (كان عليه وزرها) أي : وزر عملها (ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)" انتهى .
"دليل الفالحين" (2/136).
وقال الشيخ ابن عثيمين :
"فيه التحذير من السنن السيئة ، وأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، حتى لو كانت في أول الأمر سهلة ثم توسعت فإن عليه وزر هذا التوسع ، مثل لو أن أحدا من الناس رخص لأحد في شيء من المباح الذي يكون ذريعة واضحة إلى المحرم وقريبا ، فإنه إذا توسع الأمر بسبب ما أفتى به الناس فإن عليه الوزر ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " انتهى .
"شرح رياض الصالحين" (ص 199) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) رواه البخاري (3336) ومسلم (1677) .
قال النووي :
"وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام , وَهُوَ : أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة" انتهى .
فالأب الذي أساء تربية أولاده ، وكان قدوة سيئة لهم ، واقتدوا به في سلوكياته في المنحرفة ، يتحمل وزر أولاده ، لأنه هو السبب في انحرافهم ، وعلى الأولاد أيضاً وزر أفعالهم كاملاً ، لا ينتقص منها شيء .
وقد كان الواجب على هذا الأب أن يحسن تربية أولاده ، ويقوم بالمسؤولية التي أوجبها الله عليه خير قيام .
وقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) رواه البخاري (7138) ومسلم (1829) .

قابيل وهابيل هما شخصيتان ذكرتا في العهد القديم، وهما أول ابنين لآدم وحواء. كان قابيل عاملاً بالأرض أما هابيل فكان راعياً للغنم، وفي يوم قررا أن يعبدا الله فقدما قرابين. يقول الكتاب: وحدث من بعد أيام، أن قابيل قدم من ثمار الأرض قرباناً للرب. وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانِها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قابيل وقربانه لم ينظر. فأغتاظ قابيل جداً، وسقط وجهه. ولم ينظر الرب إلى قربان قابيل لأنه كان مخالفاً لما كان يتطلبه وهو الذبيحة الدموية أما هابيل فقد فعل. يقول الكتاب: بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قابيل. فبه شُهِد له أنه بارٌ إذ شهِد الله لقرابينه. حيث قابيل ادعى إيمانه بالرب ولكنه لم يفعل. لم يقبل الرب قربان قابيل فأغتاظ قابيل جداً وسقط وجهه. فقام على أخيه هابيل في الحقل وقتله، فقال الرب قابيل أين هابيل أخوك؟ فقال لاأعلم؛ أحارس أنا لأخي. فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ من الأرض. فالآن، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملْت الأرض لاتعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض.

قابيل وهابيل في الإسلام :

ذكرهما الله في القرآن دون ذكر اسميهما صراحة بل اكتفى بوصفهما ابني آدم فقال تعالى:  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ  رلَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ  إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ  فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ

القصة في القرآن تقول أن كلاًّ من قابيل وهابيل قدَّم صدقة قربة إلى الله سبحانه، فتقبل الله صدقة هابيل؛ لصدقه وإخلاصه، ولم يتقبل صدقة قابيل؛ لسوء نيته، وعدم تقواه، فقال قابيل -على سبيل الحسد- لأخيه هابيل: {لأقتلنك}، بسبب قبول صدقتك، ورفض قبول صدقتي، فكان رد هابيل على أخيه: {إنما يتقبل الله من المتقين}، فكان ردُّ هابيل لأخيه قابيل ردًّا فيه نصح وإرشاد؛ حيث بيَّن له الوسيلة التي تجعل صدقته مقبولة عند الله.

ثم إن هابيل انتقل من حال وعظ أخيه بتطهير قلبه من الحسد، إلى تذكيره بما تقتضيه رابطة الأخوة من تسامح، وما تستدعيه لحمة النسب من بر، فقال لأخيه: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}، فأخبره أنه إن اعتدى عليه بالقتل ظلماً وحسداً، فإنه لن يقابله بالفعل نفسه؛ خوفاً من الله، وكراهية أن يراه سبحانه قاتلاً لأخيه.

ثم انتقل هابيل إلى أسلوب آخر في وعظ أخيه وإرشاده؛ إذ أخذ يحذره من سوء المصير إن هو أقبل على تنفيذ فعلته {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}. بيد أن قابيل لم يرعوِ لنصائح أخيه، وضرب بها عُرْض الحائط، ثم انساق مع هوى نفسه، وزينت له نفسه الإقدام على قتله، فارتكب جريمته ، فقتل أخاه.
على أن قابيل القاتل لم يكتف بفعل تلك الجريمة، بل ترك أخاه ملقى في العراء، معرضاً للهوام والوحوش، ولكن بعث الله غراباً يحفر في الأرض حفرة ليدفن تلك الجثة الهامدة التي لا حول لها ولا قوة من البشر، فلما رأى قابيل ذلك المشهد، وأخذ يلوم نفسه على ما أقدم عليه، وعاتب نفسه كيف يكون هذا الغراب أهدى منه سبيلاً ، فعض أصابع الندامة، وندم ندماً شديداً، فقال عندها قابيل: (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي) ثم أخذ يفعل به ما فعل ذاك الغراب فواراه ودفنه تحت التراب.
فائدة: روى الجماعة سوى أبي داود وأحمدُ في مسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل" أي ظلمًا. فعلم من ذلك أن قابيل ما تاب من قتله لهابيل.

قابيل وهابيل في روايات عن الإمام جعفر الصادق

يذكر الثعلبي في كتابه (عرائس المجالس) وهو كتاب عن قصص الأنبياء في الباب التاسع في قصة قابيل وهابيل رواية عن الإمام جعفر الصادق تحوي فكرة مختلفة عن طريقة زواج أولاد آدم وتكوين النسل البشري وهذا نصها:

قال معاوية بن عمار: سألت جعفراً الصادق أكان آدم زوّج ابنته من ابنه؟ فقال: معاذ الله، لو فعل ذلك آدم لما رغب عنه رسول الله ، ولا كان دين آدم إلا دين نبينا محمد ، إن الله تعالى أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما، وولد له بنت فسماها عناق، فبغت، وهي أول من بغى على الأرض، فسلط الله عليها من قتلها، فولد لآدم على أثرها قابيل ثم ولد له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر الله تعالى جنية من الجن يقال لها عمالة في صورة إنسية وخلق لها رحماً، وأوحى الله إلى آدم أن زوّجها من قابيل فزوجها منه،فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حوراء في صورة إنسية وخلق لها رحماً وكان اسمها تركة، فلما نظر إليها هابيل ورمقها أوحى الله إلى آدم أن زوّجها من هابيل ففعل، فقال قابيل: يا أبت ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه؟ فقال: يا بني إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فقال: لا، ولكنك آثرته علي بهواك، فقال له: إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقربا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أولى بها من صاحبه.] ، وتحتوي كتب الشيعة على روايات تؤيد هذا المعنى عن الإمام جعفر الصادق.

على الرغم ما يُنسب لجعفر الصادق لكن الروايات بنظر المسلمين تخالف ما جاء في القرآن فقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

 قال الشيخ ابن عثيمين :

" الرجل راع في أهل بيته ، في زوجته ، في ابنه ، في بنته ، في أخته ، في عمته ، في خالته ، كل من في بيته ، هو راع في أهل بيته ، ومسؤول عن رعيته ، يجب عليه أن يرعاهم أحسن رعاية ، لأنه مسؤول عنهم " انتهى .
قال الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [المائدة: 27- 31] .
قد تكلمنا على هذه القصة، في سورة المائدة، في التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد.
ولنذكر هنا ملخص ما ذكره أئمة السلف في ذلك، فذكر السدي، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة:
أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الأخرى، وأن قابيل أراد أن يتزوج بأخت هابيل، وكان أكبر من هابيل، وأخت قابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانًا.
وذهب آدم ليحج إلى مكة، واستحفظ السماوات على بنيه، فأبين، والأرضين، والجبال فأبين، فتقبل قابيل بحفظ ذلك.
فلما ذهب قربا قربانهما، فقرب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه، فنزلت نار، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: إنما يتقبل الله من المتقين.
وروي عن ابن عباس، من وجوه أخر.
وعن عبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إليه يده.
وذكر أبو جعفر الباقر أن آدم كان مباشرًا لتقربهما القربان، والتقبل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تقبل منه لأنك دعوت له، ولم تدع لي، وتوعد أخاه فيما بينه وبينه، فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي، فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به، فلما ذهب إذا هو به فقال له: تقبل منك، ولم يتقبل مني، فقال: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فغضب قابيل عندها، وضربه بحديدة كانت معه فقتله.
وقيل: إنه إنما قتله بصخرة، رماها على رأسه، وهو نائم، فشدخته.
وقيل: بل خنقه خنقًا شديدًا وعضًا، كما تفعل السباع فمات. والله أعلم.
وقوله له لما توعده بالقتل: { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 28] .
دل على خلق حسن، وخوف من الله تعالى، وخشية منه، وتورع أن يقابل أخاه بالسوء الذي أراد منه أخوه مثله.
ولهذا ثبت في (الصحيحين) عن رسول الله أنه قال:
« إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. قالوا يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟
قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ».
وقوله: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 29] .
أي: إني أريد ترك مقاتلتك، وإن كنت أشد منك وأقوى، إذ قد عزمت على ما عزمت عليه، أن تبوء بإثمي وإثمك، أي تتحمل إثم قتلي مع ما لك من الآثام المتقدمة قبل ذلك.
قاله مجاهد، والسدي، وابن جرير، وغير واحد.
وليس المراد أن آثام المقتول تتحول بمجرد قتله إلى القاتل، كما قد توهمه بعض. قال: فإن ابن جرير حكى الإجماع على خلاف ذلك.
وأما الحديث الذي يورده بعض من لا يعلم عن النبي أنه قال:
« ما ترك القاتل على المقتول من ذنب } فلا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث، بسند صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، أيضًا.
ولكن قد يتفق في بعض الأشخاص، يوم القيامة، يطالب المقتول القاتل، فتكون حسنات القاتل لا تفي بهذه الظلمة، فتحول من سيئات المقتول إلى القاتل. كما ثبت به الحديث الصحيح في سائر المظالم والقتل من أعظمها، والله أعلم. وقد حررنا هذا كله في التفسير، ولله الحمد.
عاش آدم وحواء عليهما السلام في الأرض، ونزل معهما الشيطان حاقدًا حاسدًا، عازمًا على أن يبر بقسمه الذي أقسمه أمام رب العالمين على إغوائهما، ويتحين الفرصة ليُضلهما، ولكن آدم وحواء عليهما السلام تعلَّما الدرس جيدًا، وعرَفا أن الشيطان عدوهما، فلم يسمحا له بخداعهما كما حدث في الجنة، إلا أن الشيطان لم يستسلم أو يضعف، ولكنه انتقل من آدم وحواء إلى أبنائهما، فما الذي حدث؟
البداية:
لما أراد الله عز وجل أن يجعل آدم وبنيه خلفاء له في الأرض يعمرونها ويصلحونها، وتنتشر فيها ذريته، فكان أن جعل أمنا حواء تلد في كل مرة توءمًا؛ ذكرًا وأنثى، وكان الشرع في ذلك الوقت أن يزوج ذَكَر هذا البطن لأنثى البطن الآخر.
"تشرح الأم هذه الجزئية لطفلها قائلة: في قديم الزمان لم يكن هناك إلا عدد قليل جدًّا من الناس، فحتى يزداد عدد البشر ويكثر وتستمر الحياة؛ فقد سمح الله عز وجل أن يتزوج الأخ بأخته"، تظهر الاهتمام قائلة: "ولكن بشرط، وهو أنه ليس مسموحًا للأخ أن يتزوج أخته توءمته التي كانت معه في نفس البطن، ولكن له أن يتزوج من أخواته غيرها، ثم تستطرد الأم معقبة: وكان هذا لضرورة أن تستمر الحياة؛ لأن وقتها لم يكن هناك أي نساء إلا أخواتهم، ولكن بعد ذلك أصبح هذا الأمر حرامًا، ومنعه الله عز وجل إلى يومنا هذا".
ولدت أمُّنا حواء في البطن الأول قابيل ومعه أختًا جميلة حسناء، وفي البطن الثاني ولدت هابيل وكانت أخته غير جميلة، وبدأت أول عائلة تتكون على الأرض، وكان سيدنا آدم يحكي لأبنائه عن سجود الملائكة له، وعن حسد إبليس له، وإغوائه له، وأنه جعله يأكل من الشجرة هو وحواء، وحذرهم من إبليس... مرت السنوات وكبر قابيل وهابيل، وكان قابيل قاسيًا عنيفًا اشتغل بالزراعة والحرث، أما هابيل فكان تقيًّا صالحًا لطيفًا، وفوق ذلك كان قوي الجسم، فاشتغل برعي الغنم، وفي يوم من الأيام أراد هابيل أن يتزوج، فذهب لأخيه قابيل وطلب أن يتزوج أخته، هنا وجد الشيطان فرصته، وبدأ يلعب دوره من جديد، فجعل يوسوس لقابيل أن أختك أجمل من أخته، وهو عنده أشياء كثيرة أفضل منك، فلا تدعه يتزوج أختك، أنت أحق بها!
"تقول الأم بأسف وحزن: هكذا الشيطان، يزين لك ما ليس في يدك، ويجعلك تظن أن ما في يد الآخرين أجمل وأحسن، وهكذا ملأ الشيطان قلب قابيل بالحسد كما امتلأ قلبه هو بالحسد على آدم من قبل، وجعله طامعًا فيما هو حق لأخيه هابيل، فماذا كان رده على طلب أخيه؟" للأسف رفض رفضًا قاطعًا، ورد على هابيل ردًّا قاسيًا قائلاً له بغلظة: "هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها".
"تقول الأم بدهشة: يا إلهي! ما الذي يفعله قابيل؟! وتنظر لطفلها قائلة: هل يجوز لقابيل أن يتزوج أخته التي كانت معه في بطن واحد؟! بالطبع لا، ثم تستطرد بأسف: ولكنه الطمع والحسد لما يدخل قلب الإنسان يجعله يعصي أوامر الله ويخالفه، تُرى ما الذي سيحدث؟".

قربان قابيل وهابيل:

ذهب قابيل وهابيل إلى والدهما آدم عليه السلام، وأخبر هابيل سيدنا آدم برفض قابيل أن يزوجه أخته، فأمره والده أن يزوجها لأخيه، إلا أنه استمر في رفضه وعناده.
"تتوقف الأم وتقول باهتمام: خاف سيدنا آدم أن تحصل مشكلة كبيرة بين قابيل وهابيل، فهما أخوان وبينهما صلة رحم، وطبيعي أن يكون بينهما مودة وحب واحترام، وخشي أن يكون هذا الخلاف سببًا لمشكلة كبيرة بينهما، فاقترح عليهما اقتراحًا، أتدري ماذا اقترح؟ تعالَ لنعرف".
حتى يحل سيدنا آدم هذه المشكلة؛ أمر كلاًّ من قابيل وهابيل أن يقدِّما قربانًا لله عز وجل، فمن تقبَّل الله قربانه فهو من يتزوج الأخت الحسناء.

"توضح الأم معنى القربان: هو كل ما تُقُرِّب به إلى الله عز وجل، وهو من العبادات التي يجب ألا تصرف إلا إلى الله عز وجل فقط".
وبالفعل قدَّم كل من قابيل وهابيل قربانه، ولكنْ كل منهما بطريقة مختلفة تمامًا عن الآخر؛ أما قابيل فجاء بأسوأ زرع عنده وأردئه ليتقرب به إلى الله عز وجل، وهو يقول في نفسه: لا يهمني هل يُقبل مني أم لا، فلن يتزوج أختي أبدًا، وأما هابيل فجاء بأفضل وأحسن غنمه وأسمنه وتقرب به إلى الله عز وجل، وهو يفكر بأنه سيرضى بقضاء وحكم الله عز وجل مهما كان.
"تتوقف الأم وتسأل طفلها: تُرى أي قربان سيتقبله الله عز وجل؟ وقبل أن يجيب تقول له: ولكن قبلها دعني أسألك سؤالاً: إذا أردت أن تهدي صديقك هدية فماذا ستختار له؟ هل ستختار هدية جميلة وتعطيها له بابتسامة، أم ستختار هدية سيئة ورخيصة وتعطيها له وأنت متضايق؟ تنتظر إجابة طفلها، ثم تستكمل حديثها: بالطبع ستختار هدية رائعة وجميلة، وهكذا المؤمن يا بُنَيَّ، إذا أراد أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء، فلا بد أن يختار الأفضل والأحسن؛ لأن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا الطيب، ثم تبتسم قائلة: أظنك الآن عرَفت الإجابة".
صعِد قابيل وهابيل للجبل، ووضعا قربانهما على الأرض، وانتظَرا.
"تتوقف الأم وتقول بصوت مثير للانتباه: وفجأة ، حدث أمر عجيب".
نزلت نار من السماء فأكلت الشاة وتركت الزرع كما هو، وكانوا قديمًا يعرفون أن القربان تُقبِّل إذا نزلت نار من السماء بيضاء فأكلته، وإذا لم يكن مقبولاً لم تنزل النار، وأكلته الطير والسباع.

تقبَّل الله عز وجل قربان هابيل؛ لأنه كان تقيًّا مستسلمًا لأمر الله عز وجل، ولم يتقبل قربان قابيل؛ لسوء نيته وعدم تقواه، فنزلوا من الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه، وكان يضمر الحسد في نفسه، وقرر أن يقتله، وقال له: لأقتلنك.

قال: ولمَ؟

قال: لأن الله تعالى قَبِل قربانك وردَّ قرباني، وتتزوج أختي الحسناء وأتزوج أختك غير الجميلة، فيتحدث الناس أنك خير مني، ويفتخر ولدك على ولدي.

قال هابيل: وما ذنبي؟! إنما يتقبَّل الله من المتقين.

"تتوقف الأم هنا وتقول: عجيب أمر قابيل! غضب من أخيه لأن الله تقبل منه قربانه، ونسي أنه هو السبب في ذلك، وأن الخطأ ليس خطأ هابيل؛ وإنما خطؤه هو؛ لأنه لم يتقِ الله، ولم يقدم قربانًا جيدًا مثل أخيه، ليست تلك أخلاق المسلمين أبدًا، بل المؤمن حقًّا صاحب الخلق الرفيع إذا رأى عند أخيه نعمة لا يحسده أو يطمع فيها، بل يفرح له، ويعلم أن الله هو من أعطى لأخيه هذه النعمة، فلا يغضب أو يحقد على أخيه، وإذا أراد مثلها فعليه أن يدعو الله عز وجل المعطي، أليس كذلك؟".

مشهد القتل:

ومع أن هابيل كان أكثر قوة من أخيه قابيل، وكان يستطيع أن ينتصر عليه، إلا أنه لم يَعتدِ على أخيه، وبدأ ينصحه، ويذكِّره برابطة الأخوة التي بينهما، فأخبره أنه إن اعتدى عليه بالقتل ظلمًا وحسدًا، فإنه لن يقابله بالفعل نفسه؛ خوفًا من الله، وكراهية أن يراه سبحانه قاتلاً لأخيه؛ إذ القتل جريمة بشعة شنيعة، وخاصة إذا كانت من أخ لأخيه.

"تتوقف الأم وتقول بأسى: أمعقول أن يقتل الأخ أخاه؟! كيف ذلك؟! ولماذا؟! للأسف إنه الشيطان اللعين الذي ملأ قلب قابيل حقدًا وحسدًا على أخيه الطيب هابيل، وكان قابيل إيمانه ضعيف؛ ولذلك لم يستطع أن يقاومه واستمع لكلام الشيطان".

ولما شعر هابيل أن كلامه لم يردع أخاه، بدأ يخوِّفه بالله وبسوء العاقبة وبالنار إذا قام بقتله، ولكن للأسف بلا فائدة، انساق قابيل وراء شيطانه، وزيَّنت له نفسه قتل أخيه وعزم على ذلك، ولكن واجهتْه مشكلة غريبة.
"تسأل الأم ابنها قائلة: أتدري ما هي؟ أنه لم يكن يعرف كيف يقتله!"، وهنا جاء دور الشيطان اللعين مرة أخرى، فتمثل لقابيل وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخ رأسه بحجر آخر، وقابيل ينظر إليه، فعلَّمه القتل.
وهكذا تعلم قابيل كيف يقتل، وأخذ يبحث عن أخيه ليقتله، فوجده نائمًا، فجاء بصخرة كبيرة فضرب بها رأسه، فمات.
"تقول الأم بحزن: يا إلهي، أخ يقتل أخاه؟! كيف استطاع أن يرتكب هذه الجريمة البشعة؟! أخوه الذي عاش وتربى معه، وكبر معه، وأكل وشرب معه، كيف تجرأ على قتل أخيه من لحمه ودمه؟! يا للخسارة، هذه نتيجة اتباع الإنسان للشيطان وطاعته".


بعث الله الغراب:


جلس قابيل حائرًا نادمًا بجوار جثة أخيه، ولم يدرِ ماذا يفعل بها؛ لأنه كان أول ميت على وجه الأرض، فأراد الله عز وجل أن يعلم البشرية كيف يدفن المسلمون موتاهم، فبعث الله عز وجل غرابينِ أسودينِ فاقتَتَلا أمامه حتى قتل أحدهما الآخر، ثم قام هذا الغراب يَحفِر بمنقاره وبرجله الأرض، حتى حفر حفرة وقام بإلقاء الغراب الميت فيها، ثم غطاه بالتراب حتى لم يعد يظهر منه شيء، كل هذا وقابيل يشاهد.

تعجب قابيل مما فعل الغراب، وأخذ يلوم ويعاتب نفسه، كيف يكون هذا الغراب أفضل منه وأعلم، ثم قام ففعل مثلما فعل الغراب، ودفن الأخ أخاه تحت التراب، وهو نادم أشد الندم على فعلته الشنيعة، ولكن حيث لا ينفع الندم.

"تنظر الأم لولدها وتظهر الأسى والحزن قائلة: قتل قابيل أخاه هابيل، وانتصر الشيطان في هذه الجولة من المعركة، وخسر... تتوقف لتسأل: أتدري بني من الخاسر؟ ليس هابيل؛ فهابيل فاز بالجنة وبرضا الله عز وجل؛ لأنه كان تقيًّا ومطيعًا لله، ولأنه قُتل مظلومًا، أما الخاسر فهو قابيل، القاتل، الذي خسر دنياه وآخرته، خسر أخاه، خسر سنده وعونه في هذه الدنيا، وكل من قُتل مظلومًا من وقت سيدنا آدم إلى وقتنا هذا فسيكون في موازين سيئاته؛ لأنه أول من سن سنة القتل، أتتخيل ابني الحبيب كمية السيئات التي ستكون في ميزانه يوم القيامة؟! إنه لأمر عظيم!".

قال تعالى: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 28 - 31].

في هذه القصة الكثير من الدروس والعِبر التي تستطيع الأم أن تغرسها في أطفالها؛ منها:


الدنيا فيها الخير والشر، الأبرار والفجار.
الحسد والطمع إذا تمكَّنا من قلب الإنسان أورداه المهالك، وكانت عاقبته سوءًا.
تقوى الله عز وجل هي سبب لقبول العمل.
الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبًا، فلنتخير أطيب أموالنا لله عز وجل.
من أخلاق المسلم ألا يعتدي على أخيه المسلم.
ندم الإنسان على ما اقترفه من معاصٍ لا يرفع عنه العقوبة، أما الندم الذي يرفع العقوبة فهو الندم الذي يعقبه توبة صادقة نصوح.
الفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة ورضا الله عز وجل، والخسارة كل الخسارة في اتباع الشيطان.


هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع