مقال عن بعض الحرف في المملكة السعودية
يدفع الحنين والتعلّق بالماضي، العديد
من الشباب السعودي إلى إعادة إحياء المهن التقليدية الشعبية التي كانت معروفة في
ربوع المملكة المختلفة، قبل عقود طويلة من الآن، وبخاصة تلك التي كانت منتشرة في
بادية منطقة نجد والمنطقة الشرقية والحجاز؛ فقد بدأت تنتشر في المدن الرئيسة
وضواحيها محلات متخصصة يرتكز عملها على الحرف القديمة مثل: المنتجات
الفخارية، والخوصيات، والجلديات، والفضيات، وغزل النسيج اليدوي.
وكانت هذه المهن والحرف التي يسعى
الشباب لإحيائها تقوم عليها الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المملكة قبل عصر
الطفرة النفطية في السبعينيات، فمع تدفّق البترول بدأت هذه المهن في الانكماش
والتراجع ليحل مكانها المهن الحديثة المستندة على الثروة والمال، وذلك في نقلة
سريعة وواسعة للغاية؛ إذ انتقلت الحرف من الاعتماد على المواد الخام التقليدية إلى
الاعتماد على النفط والبتروكيماويات والصناعات الحديثة.
وبجهود هؤلاء الشباب الذين لم يعاصروا
العصر الزاهر للمهن التي يشتغلونها الآن، بدأت الحرف القديمة تسجل حضورًا واضحًا
في المشهد الاجتماعي والاقتصادي في المملكة، تتنافس مع ما تعرضه الأسواق الحديثة
والمولات. وفيما تُعدّ الدوافع الذاتية مثل التعلّق بتراث الأجداد وحب التجديد
بالرجوع إلى القديم، هي الأهم والأغلب في اتجاه الشباب للعمل في الحرف التقليدية،
فإن هناك عوامل مهمة أخرى تلعب دورًا في هذا التوجّه، تتصدرها المنتجات القديمة
بدأت تجد سوقًا رائجة، ويقبل عليها المواطنون والسياح والمقيمون، ويشترونها بأثمان
عالية، على عكس ما يتصور عن العوائد المادية لمثل هذه المهن، وفي جولة بسوقي
(الثميري)، و(سويقة) وهما من أهم الأسواق القديمة في مدينة الرياض، وتعمر جنباتهما
بالمحلات المتخصصة في تسويق المنتجات التراثية، ذكر لنا أحد العاملين في مهنة
صناعة (البشوت) أن العوائد المادية لعمله مجدية للغاية، وأنه عندما كان يعمل في
بيع الملبوسات الحديثة لم يكن دخله يصل إلى نصف ما يدره دكانه الآن من بيع البشوت
والمصنوعات الجلدية التراثية، داعيًا الشباب إلى الإقبال بشكل أكبر على المهن
القديمة لعائدها المجزي، ولقيمة ما ينتجه الشاب.
ويشير الباحث السعودي عبد الرحيم
الأحمدي إلى أن الأقبال على المهن التقليدية من الشباب اتجاه محمود، ويجب أن يُدعم
ويحفّز، مؤكدًا أن ذلك يضفي قيمة أكبر على التراث السعودي في مجال الحرف والمهن
والذي يزخر بالتنوّع والثراء، ولفت الأحمدي إلى أن حفظ التراث لا ينبغي أن يكون
بإجراء الدراسات والتدوين في كتب التاريخ، وإنما الوسيلة الأفضل لحفظ هذا التراث
تكمن في إعادة ممارسته بشكل عملي حتى يكون حيًا في أذهان الناس.
ومع أن مدن السعودية في أغلبها كانت
تشتهر بأنواع معينة من المهن التقليدية القديمة، إلاّ أن هناك بعض المدن التي
تميزت أكثر من غيرها بأنها كانت تشكل محضنًا لحرف معينة، وتصدر إلى بقية المدن حيث
المحترفون في فنونها وأسرارها، وذلك مثل مدن القصيم في الوسط، ومدن الحجاز، ومدينة
الأحساء (شرقي السعودية)، والتي عُرفت بين أقرانها بنوعيات محددة من المهن أشهرها
مهن (القفاص)، وهو الحرفي الذي يتعامل مع جريد النخل بعد إزالة أوراقة، أو ما
يُسمّى (الخوص) بالتعبير المحلي، ومن أشهر الأدوات التي يبدعها القفاص: المحضر أو
(المنز) وهو سرير نوم الطفل، وأقفاص الطيور، وأقفاص الرطب والتين والمراجيح
القديمة وغيرها. وفن السدو وهي الحياكة بالمفهوم المعاصر، كما اشتهرت الأحساء
أيضًا بـ(النداف) وهو المتعامل مع القطن والخشب، ويصنع منتجات قطنية معينة مثل
المجالس وغيرها.
وتقول الحرفية في صناعة (الخوصيات) أم
سعيد: إن صناعة السفر والزنابيل والسلال والمراوح اليدوية... وغيرها من الحرف
الشهيرة في الأحساء قبل أكثر من (35) سنة, وكانت مصدر رزق لمعظم الأسر، لكن اليوم
تغير الحال، وباتت الحرفة من الماضي.
ومما تتميز به المنطقة الشرقية في
السعودية بشكل عام أن المهن ارتبطت فيها بأسماء العوائل الشهيرة مثل: القطان،
والصفار، والصاغة، والحداد، والنجار، والسماك، والرصاصي، والقفاص وغيرها.
أما
في بقية المدن فهناك تشابه في طبيعة المهن التراثية؛ فمهنة (مربي الدلال) على سبيل
المثال هي من المهن التي كانت واسعة الانتشار في كافة مناطق المملكة، ويقصد بها
-كما يحدثنا غايب مفضي الذي يمارس هذه الحرفة منذ حوالي (27) سنة وراثة عن والده
الذي سبقه في هذا المجال- أنها تعتمد على عدد من المواد كالرصاص، والنار، والصبغ،
والذهب الأبيض، والنحاس، وحدب الرمش، وهو ما يتم تنظيف الدله به عند تجهيزها، وعن
تسميته بمربي الدلال قال: إن هذا الاسم خرج من حيث الحرفة نفسها إذ "أقوم على
تربيتها من خلال الاعتناء بها وتنظيفها وتلميعها وتجهيزها للبيع". ومن المهن
التي كانت رائجة أيضًا في عموم المملكة مهنة (التناك)، وهي تُطلق على من يقوم
بصناعة التنكات وما يندرج تحتها من الصفيح -كما يذكر الممارس لهذه المهنة محمد
العتيف- وهو يعمل بها من حوالي خمس عشرة سنة تقريبًا؛ فقد ورثها أبًا عن جدّ،
مارسها والده في السابق، والآن يقوم هو بهذه الحرفة، ويشير إلى أن التنكات تُصنع
من الصفائح الموجودة في عدة أشياء كصناديق الجرامات التي يوضع فيها العيش سابقًا،
والطشت الذي تمارس فيه عملية غسيل الملابس في الماضي، والمغراف، والتاوة التي تقوم
بعمل القلي فيما مضى، ومضراب الجد، والكثير من الأدوات المنزلية التي تُستخدم في
الماضي.
ولدواعي التسويق السياحي والتوثيق
التاريخي أطلقت السعودية قبل سنوات مشروع (الإستراتيجية الوطنية لتنمية وتطوير
الحرف والصناعات اليدوية)، والذي يختصر (بارع)، وتضم الحرف والصناعات التقليدية
التي تستهدفها الإستراتيجية -كما يقول المشرف عليها المهندس سعيد القحطاني- حوالي
(45) مجموعة من الحرف والصناعات التقليدية، يتفرع منها قائمة طويلة من المنتجات
اليدوية، تشمل صناعة السبح والأحجار الكريمة، والمنتجات الفخارية، والخوصيات،
والجلديات، والفضيات، والأسلحة التقليدية، والمنتجات الحديدية لأغراض الزراعة
والنحاسيات والفضيات، وغزل النسيج اليدوي، وصناعة البشوت، والقياطين بأنواعها
والأزياء الشعبية، وصناعة الشّباك، والأقفاص، والمزهريات، والدلال، والأحذية
التقليدية، والقطران والحلويات الشعبية، والكراسي الشعبية، والصناعات المرتبطة
بمواد البناء التقليدية.
وقدّر القحطاني إجمالي الحرفيين في
المملكة بـ (20671) فردًا، 45% منهم سعوديون يمثلون (9248) فردًا، و55% غير
سعوديين يمثلون (11423) فردًا. ويمثل الذكور الحرفيون (13021) فردًا، ما نسبته 63%
من إجمالي الحرفيين، في حين تمثل الحرفيات 37% وعددهن (7542) حرفية. وبيّنت
إحصائية وردت في الإستراتيجية أن 76% من الحرفيين يتوزعون بين ست مناطق هي مكة
المكرمة، والرياض، والمدينة المنورة، والمنطقة الشرقية، وعسير، وتبوك، والجوف.
وأفاد بأن 30% من حرفيي المملكة يعملون في خمس حرف رئيسة هي: التطريز اليدوي،
والسدو، والأعشاب العطرية، والحلوى الشعبية، والمنتجات الخوصية.