القائمة الرئيسية

الصفحات

 أصول الفقه

أصول الفقه


مقدمة :

 من أهم الأشياء التي يجب علينا أن نعلمها أن الناس في العصور الإسلامية القديمة إلى عهد رسول الله محمد صلى الله علية وسلم، كان النبي علية الصلاة والسلام هو مصدرهم في التشريع، حيث انه كانت هنالك الكثير من الأمور الدينية التي لم يكن الناس يعلمون الأحكام الدينية الصريحة فيها. فكان الناس يذهبون إلى رسول الله صلى الله علية وسلم ويسألونه في كافة الأشياء التي يحتاجون إلى معرفتها أو يحتاجون فيها إلى نوع من التوضيح، وكان رسول الله صلى الله علية وسلم يوضح إلى كافة الناس تلك الأحكام الدينية بما أمره به رب العالمين تبارك وتعالى وبالدليل القاطع. ولكن بعد وفاة رسول الله صلى الله علية وسلم كان هنالك أمور كثيرة مستحدثة أي أنها لا يوجد لها أي حكم في السيرة النبوية الشريفة عن نبي الله محمد صلى الله علية وسلم، وقد كان الناس يحتاجون في تلك الأشياء إلى أحكام دينية صريحة وقاطعة تهديهم إلى التصرفات السوية حتى لا يخطئون.

أصول الفقه مركب من لفظين مفردين بإضافة لفظ: «أصول» إلى لفظ: «الفقه»، ومعنى الأصول باعتباره مفرداً هي: أدلة الفقه، وأصول الفقه بالمعنى الإضافي: «الأدلة الشرعية، التي يعتمد عليها علم الفقه، وتستمد منها أحكامه». و«أصول الفقه» بمعناه اللقبي، أي: المركب الإجمالي، بمعنى: العلم المسمى بـ: «أصول الفقه» هو: «العلم بالقواعد التي وضعت للوصول إلی استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية». وبعبارة أخری: أصول الفقه هو علم يضع القواعد الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها الصحيحة. أو هو:«علم يدرس أدلة الفقه الإجمالية، وما يتوصل به إلى الأدلة، وطرق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، والاجتهاد والاستدلال». فهو: «منهج الاستدلال الفقهي»، وموضوعه: أدلة الفقه الإجمالية، وما يتوصل به إلى الأدلة. ويبحث في كيفية الاستنباط، وقواعده وشروطه.

أو هو: «علم يبحث في أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد (المجتهد)»، ويبين كيفية استنباط الحكم من دليله، كاستنباطه من صراحة نص الآية القرآنية، أو الحديث النبوي، أو من مفهومهما، أو من القياس عليهما، أو بغير ذلك، وعلم أصول الفقه يبحث في الأدلة بصفتها الإجمالية، وخصائص كل نوع منها وكيفية ارتباط أنواعها ببعض، والقواعد والشروط التي تبين للفقيه المسلك الذي يجب عليه أن يلتزمه في استخراج الأحكام من أدلتها.

كانت أصول الفقه معرفة حاضرة في أذهان فقهاء الصحابة والتابعين في الصدر الأول، حيث لم يكونوا بحاجة لعلم قواعد الاستدلال التي أخذت معظمها عنهم؛ لأنهم أصحاب ملكة لسانية، وخبرتهم في معرفة نقل الشرع وقرب العصر، وبعد انتهاء فترة الصدر الأول وظهور عصر تدوين العلوم احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل قوانين الاستنباط وقواعده لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه. قال ابن خلدون: «وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه، أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس، ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها وكتب المتكلمون أيضا كذلك». وفي مصادر أخرى فقد قيل إن أول من صنف في علم أصول الفقه وضبط القواعد: أبو يوسف، ومحمد تلميذا أبي حنيفة، وقيل: بل أبو يوسف وحده، وقيل: بل هو أبو حنيفة النعمان حيث كتب كتاباً أسماه كتاب الرأي، ولكن لم يصل من ذلك شيء، والذي اشتهر قديما وحديثا: أن الشافعي أول من دون في علم أصول الفقه، وكتب فيه بصورة مستقلة في كتابه المشهور: «الرسالة» -وهو كتاب متداول مطبوع- وقد صرح بذلك جمع كابن خلكان وابن خلدون.

وأدلة الفقه الإجمالية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذه الأربعة الأدلة هي الأصول الأساسية المتفق عليها عند جمهور الفقهاء، وما عداها من الأدلة مختلف في تفاصيل الاستدلال بها، لا في إنكارها بالكلية، وتشمل: استصحاب الحال، والاستحسان والمصالح المرسلة، والعرف، وعمل أهل المدينة عند المالكية، وقول الصحابي

تعريف أصول الفقه

لفظ: «أصول الفقه» أي: اللفظ المركب الذي يتألف من جزئين مفردين يسمى عند علماء اللغة العربية: مركباً إضافياً، بمعنى: أنه مركب من إضافة كلمة: أصول إلى كلمة: الفقه، أي: الأصول المضافة إلى الفقه، فالأصول مضاف والفقه مضاف إليه. وهو باعتبار نسبته إلى الفقه بمعنى: فروع الفقه، تمييزاً لها عن أصول الدين المتعلقة بالعقيدة الإسلامية. والأصول المضافة للفقه بهذا اللفظ المركب تركيباً إضافياً تارة يقصد به الأصول المضافة إلى الفقه، وتارة يقصد به الفن أي: العلم المسمى بـأصول الفقه، فله معنيان عند علماء أصول الفقه أحدهما: أصول الفقه بالمعنى الإضافي، وثانيهما: أصول الفقه بالمعنى اللقبي. فأما أصول الفقه بالمعنى الإضافي أي: كلمة أصول مضافة إلى كلمة الفقه فهو: الأدلة الموصلة إلى العلم. وأما أصول الفقه بالمعنى اللقبي، أي: ما يلقب بـأصول الفقه هو: العلم المسمى بـعلم أصول الفقه. وأصول الفقه بمعنى العلم هو الذي يبحث في: الأدلة التي يبنى عليها الفقه، وما يتوصل بها إلى الأدلة على سبيل الإجمال، فهو يبحث في: الأدلة الموصلة إلى العلم، وما يتوصل به إلى الأدلة، وفي الاستدلال وصفات المجتهد. أما أصول الفقه بالمعنى الإضافي؛ فهو بمعنى أدلة الفقه. والفقه: بمعنى: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، والأحكام الشرعية فرض، ومندوب ومكروه وحرام ومباح وصحيح وباطل. والأصل في اللغة: مايبنى عليه غيره، حسيا كان البناء أو معنويا، وفي الاصطلاح بمعنى: الدليل وقد يكون لمعان أخرى منها: «الرجحان» أو «القاعدة» أو «الصورة المقيس عليها»، المقصود هو الأول.

تعريف أصول الفقه بالمعنى الإضافي

أصول الفقه بالمعنى الإضافي: باعتباره مركباً إضافياً أي: لفظ «أصول الفقه»: مركب من جزئين مفردين أحدهما: «أصول» وثانيهما: «فقه»، والجزآن مفردان من الإفراد مقابل التركيب لا التثنية والجمع، والمؤلف يعرف بمعرفة ما ألف منه، وتتوقف معرفة اللفظ المركب على معرفة مفرداته من حيث التركيب لا من حيث كل وجه. فالأصل الذي هو مفرد الجزء الأول: ما يبنى عليه غيره، كأصل الجدار أي أساسه وأصل الشجرة أي: طرفها الثابت في الأرض. والفرع الذي هو مقابل الأصل ما يبنى على غيره كفروع الشجرة لأصلها وفروع الفقه لأصوله. وأصول الفقه بهذا المعنى الإضافي هي الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه، فيقصد بها: أدلة الفقه، وقد ذكر ابن الحاجب في مختصره تعريف أصول الفقه بمعناه الإضافي فقال: «وأما حده مضافاً: فالأصول: الأدلة، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال».

تعريف الأصل

الأصل: أسفل كل شيء وجمعه أصول لا يكسر على غير ذلك، وهو اليأصول. يقال: أصل مؤصل، وأصل الشيء: صار ذا أصل، قال أمية الهذلي:

وما الشغل إلا أنني متهيب                   لعرضك ما لم تجعل الشيء يأصل.

والأصول: جمع أصل، وأصل الشيء: «ما منه الشيء»، أي: مادته كالوالد للولد، والشجرة للغصن. وقال الآمدي: «ما استند الشيء في تحقيقه إليه». وقال أبو الحسين: «ما يبنى عليه غيره»، وتبعه ابن الحاجب في باب القياس، ورد بأنه لا يقال: إن الولد يبنى على الوالد، بل يقال: فرعه. وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام: «كل ما أثمر معرفة شيء ونبه عليه فهو أصل له»، فعلوم الحس أصل، لأنها تثمر معرفة حقائق الأشياء، وما عداه فرع له. قال الزركشي: وقال القفال الشاشي: الأصل: «ما تفرع عنه غيره، والفرع: ما تفرع عن غيره»، وهذا أسد الحدود، فعلى هذا لا يقال في الكتاب: إنه فرع أصله الحس؛ لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلاً دل العقل عليه. قال: والكتاب والسنة أصل، لأن غيرهما يتفرع عنهما، وأما القياس فيجوز أن يكون أصلاً على معنى أن له فروقاً تنشأ عنه، ويتوصل إلى معرفتها من جهته، كالكتاب أصل لما ينبني عليه، وكالسنة أصل لما يعرف من جهتها، وهو فرع على معنى أنه إنما عرف بغيره وهو الكتاب أو غيره، وكذلك السنة والإجماع. قال: وقيل: إن القياس لا يقال له: أصل ولا فرع، لأنه فعل القائس، ولا توصف الأفعال بالأصل والفرع. وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي: «الأصل ما عرف به حكم غيره، والفرع ما عرف بحكم غيره قياساً عليه».

الأصل بالمعنى الاصطلاحي

الأصل بالمعنى الاصطلاحي كما ذكر الزركشي أنه: يطلق على أمور: أحدها: الصورة المقيس عليها على خلاف يذكر في باب القياس في تفسير الأصل، الثاني بمعنى: الرجحان، كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي: الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز. الثالث: الدليل، كقولهم: أصل هذه المسألة من الكتاب والسنة أي: دليلها، ومنه أصول الفقه أي: أدلته. الرابع: القاعدة المستمرة، كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل. ذكرها بدر الدين الزركشي على هذا النحو وقال: وهذه الأربعة ذكرها القرافي وفيه نظر؛ لأن الصورة المقيس عليها ليست معنى زائداً؛ لأن أصل القياس اختلف فيه هل هو محل الحكم أو دليله أو حكمه؟ وأياً ما كان فليس معنىً زائداً؛ لأنه إن كان أصل القياس دليله فهو المعنى السابق، وإن كان محله أو حكمه فهما يسميان أيضاً دليلاً مجازاً، فلم يخرج الأصل عن معنى الدليل. وبقي عليه أمور: أحدها: التعبد، كقولهم: إيجاب الطهارة بخروج الخارج على خلاف الأصل. يريدون أنه لا يهتدي إليه القياس. الثاني: الغالب في الشرع، ولا يمكن ذلك إلا باستقراء موارد الشرع. الثالث: استمرار الحكم السابق، كقولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل له. الرابع: المخرج، كقول علماء الفرائض: أصل المسألة من كذا.

 

تعريف أصول الفقه بالمعنى اللقبي

أصول الفقه بالمعنى اللقبي هو التعريف الثاني لأصول الفقه باعتباره علماً، ويقصد به العلم المسمى بـ«أصول الفقه»، من حيث إن العلماء أطلقوا هذا اللفظ على العلم المخصوص الذي لقبوه: بـ«أصول الفقه». قال ابن الحاجب: «أما حده لقباً؛ فالعلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية». وما يتوصل به إلى الأدلة على سبيل الإجمال هو: الكلام على هذه الأدلة ووجهها وترتيبها والاستنباط والترجيح والتعارض وكيفيات الاستدلال وشروطه وصفات المجتهد. والأدلة الموصلة إلى العلم هي: القواعد الكلية التي أخذت من الكتاب والسنة والإجماع؛ لأنها هي العمدة في الاستدلال، وهي: طرق الفقه. والفن المسمى بـ«أصول الفقه» هو: «طرق الفقه الإجمالية وكيفية الاستدلال بها وصفة المستدل بها»، والمقصود بأصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال، وطرق الفقه على سبيل الإجمال مثل: مطلق الأمر من حيث إنه للوجوب، والنهي من حيث إنه للتحريم عند الإطلاق، والصحة تقتضي النفوذ، قال إمام الحرمين في متن الورقات عند تعريف أصول الفقه باعتباره علماً: «وأصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال». وبين ذلك جلال الدين المَحَلِّيُّ في شرح الورقات بقوله: «كمطلق الأمر والنهي وفعل النبي صلى الله عليه وسلم  والإجماع والقياس والاستصحاب، من حيث البحث عن أولها بأنه للوجوب والثاني بأنه للحرمة والباقي بأنها حجج وغير ذلك». فيشتمل تعريف أصول الفقه بمعناه اللقبي على ثلاثة مكونات يتألف منها هي: «طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وصفات المستدل» وكيفية الاستدلال بطرق الفقه من حيث تفصيلها عند تعارضها لكونها ظنية من تقديم الخاص على العام والمقيد على المطلق وغير ذلك. وكيفية الاستدلال بها أو الاستفادة منها أي: معرفة كيفية استفادة الأحكام من أدلتها بدراسة أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك. وكيفية الاستدلال بهذه الطرق تستلزم وجود من يقوم بالاستدلال وهو المجتهد، فإنه بإدراكه يستفيد من أدلة الفقه أحكامها والاستدلال بها، ومعرفة صفات من يستدل بها وهو المجتهد، وهذه الثلاثة هي الفن المسمى بأصول الفقه؛ لتوقف الفقه عليه. فالعلم المسمى بـ«أصول الفقه» هو: طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستدلال بها، أو الاستفادة منها، ومعرفة حال المستفيد وهو المجتهد وسُمِّيَ مستفيداً؛ لأنه يستفيد أي: يستنبط بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد، فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك. فيخرج بذلك الأدلة التفصيلية فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل على القاعدة.

قال جلال الدين المحلي في شرح الورقات لإمام الحرمين: «بخلاف طرقه على سبيل التفصيل نحو: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ وصلاته صلى الله عليه وسلم  في الكعبة» كما أخرجه الشيخان». قال ابن حجر العسقلاني: «والصلاة في الكعبة ثابت في الصحيحين، لكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم  صلى فيها الفرض». وروى مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي قال قرأت على مالك عن نافع «عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقها عليه ثم مكث فيها، قال ابن عمر فسألت بلالاً حين خرج ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم  ؟ قال: جعل عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى». وأيضا: كالإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب لهما. وقياس الأرز على البر في امتناع بيع بعضه ببعض، إلا مثلاً بمثل يداً بيد، كما رواه مسلم في صحيحه. وأيضاً مثل: استصحاب الطهارة لمن شك في بقائها، فكلها ليست من أصول الفقه وإن ذكر بعضها في كتبه تمثيلاً.

تعريف الفقه

حيث إن «أصول الفقه» مركب من جزئين والجزء الثاني هو: «الفقه»، ومعناه في اللغة الفهم. وبالمعنى الشرعي هو: «معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد»، كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب، وأن النية من الليل شرط في صوم رمضان، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي، وغير واجبة في الحلي المباح، وأن القتل بمثقل يوجب القصاص، ونحو ذلك من مسائل الخلاف، بخلاف ما ليس طريقه الاجتهاد، كالعلم بأن الصلوات الخمس واجبة، وأن الزنى حرام، وغير ذلك من المسائل القطعية فلا يسمى فقهاً، فالمعرفة هنا العلم بمعنى الظن. والْفِقْهُ في اللغة: الْفَهْمُ للشيء والعلم به، وفهم الأحكام الدقيقة والمسائل الغامضة، وهو في الأصل مطلق الفهم، وغلب استعماله في العرف مخصوصاً بـعلم الشريعة؛ لشرفها على سائر العلوم، وتخصيص اسم الفقه بهذا الاصطلاح حادث، واسم الفقه يعم جميع الشريعة التي من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله ووحدانيته وتقديسه وسائر صفاته، وإلى معرفة أنبيائه ورسله عليهم السلام، ومنها علم الأحوال والأخلاق والآداب والقيام بحق العبودية وغير ذلك. قال بدر الدين الزركشي: «وذكر الإمام الغزالي أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى ودلائلها وعللها» واسم الفقه في العصر الأول كان يطلق على: «علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستلاب الخوف على القلب». وعرفه أبو حنيفة بأنه: «معرفة النفس ما لها وما عليها» وعموم هذا التعريف كان ملائماً لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية. وعرف الشافعي الفقه بالتعريف المشهور بعده عند العلماء بأنه: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية». وفي اصطلاح علماء أصول الفقه: «العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية». ويسمى في اصطلاح المتأخرين علم الفقه ويطلق في العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي مخصوصاً بالفروع، وهو أحد أنواع العلوم الشرعية، وهو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمدة من أدلتها التفصيلية. والفقيه العالم بالفقه، وعند علماء أصول الفقه هو المجتهد.

المعنى اللغوي

الفِقْه بالمعنى اللغوي الْفَهْمُ، وأصله بالكسر والفعل فَقِهَ يَفْقَهُ بكسر القاف في الماضي وفتحها في المضارع، يقال: فَقِهَ الرجل أي: فهم، والمصدر الفِقْهُ، وفلان لا يَفْقَهُ وَلَا يَنْقَه، مادته: (فِ قْ هـ)، وهو في الأصل لمعنى: مطلق الْفَهْمُ، من فَقِهَ -بكسر الوسط- يقال: فَقِهَ الرجل فِقْهاً، وأَفْقَهْتُهُ الشيء، هذا أصله، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فَقِيهٌ، وقد فَقُهَ من باب ظَرُفَ أي: صار فقيهاً. وفَقَّهه الله تفقيهاً، وتفَقَّه إذا تعاطى ذلك، وفاقهه باحثه في العلم. قال ابن حجر: «يقال: فَقُهَ بالضم إذا صار الفقه له سجية، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفَقِهَ بالكسر إذا فهم». وكلمة «فِقْه» في اللغة مصدر ماضيه في الأصل فَقِهَ -بكسر القاف- بمعنى: فَهْمُ الشي والعلم به مطلقاً، أو مخصوصاً بفهم الأشياء الغامضة والمسائل الدقيقة، ثم نقل لفظ «فقه» من معناه اللغوي بغلبة الاستعمال في العرف إلى معنى العلم بالدين. قال ابن منظور: «وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كما غلب النجم على الثريا والعود على المندل». قال ابن الأثير: «واشتقاقه من الشق والفتح، وقد جعله العرف خاصا بـعلم الشريعة، -شرفها الله تعالى-، وتخصيصا بـعلم الفروع منها». قال ابن منظور: «والفقه في الأصل الفهم، يقال: أوتي فلان فقها في الدين أي فهما فيه. قال الله عز وجل: ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ أي: ليكونوا علماء به، وفقهه الله، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم  لابن عباس فقال: «اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل» أي: فهمه تأويله ومعناه، فاستجاب الله دعاءه وكان من أعلم الناس في زمانه بكتاب الله تعالى». وقال ابن سيده: «وفقه عنه بالكسر: فهم، ويقال: فقه فلان عني ما بينت له يفقه فقها إذا فهمه». والفقه بمعنى: العلم بالشّيء، والفهم له، والفطنة فيه، وغلب على علم الدين لشرفه، وما ذكر في القرآن حكاية ما قاله قوم النبي شعيب، في قول الله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾؛ فهو بمعنى: عدم الفهم مطلقا. وقيل: هو عبارة عن كلّ معلوم تيقّنه العالم عن فكر.

 

وخصه حملة الشرع بضرب من العلوم، ونقل ابن السمعاني عن ابن فارس: أنه إدراك علم الشيء، وقال الجوهري وغيره: هو الفهم، وقال الراغب هو التوسل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم. وفسر الفهم بمعرفة الشيء بالقلب، والعلم به، يقال: فهمت الشيء عقلته وعرفته، وفهمت الشيء فهما علمته، فلا يقصد فهم المعنى من اللفظ، ولا فهم غرض المتكلم، وقال أبو إسحاق وصاحب اللباب من الحنفية: «فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال: فقهت أن السماء فوقنا». قال القرافي: وهذا أولى؛ ولهذا خصصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية، فيشترط كونه في مظنة الخفاء، فلا يحسن أن يقال: فهمت أن الإثنين أكثر من الواحد، ومن ثم لم يسم العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها. والفقه اللغوي مكسور القاف في الماضي والاصطلاحي مضمومها فيه. يقال: فقه -بالكسر- فهو فاقه إذا فهم، وفقه -بالفتح- فهو فاقه أيضا إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه -بالضم- فهو فقيه إذا صار الفقه له سجية. ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبة الاستعمال كما أشار إليه ابن سيده بقوله: «غلب على علم الدين لسيادته وشرفه كالنجم على الثريا، والعود على المندل».

بالمعنى الاصطلاحي

الفقه في اصطلاح علماء أصول الفقه هو: «العلم بالأحكام الشّرعيّة العمليّة المكتسب من أدلّتها التّفصيلة». وعرفه أبو إسحاق الشيرازي بأنه: «معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد»، أو هو: «علم كل حكم شرعي بالاجتهاد»، أو «العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال»، أو من طريق أدلتها التفصيلية، وفق أصول فقهية سليمة، واستدلالات منهجية، يتوصل منها إلى معرفة الأحكام الشرعية، المكتسبة من الأدلة التفصيلية. ومعنى العلم بالأحكام الشرعية أي: «المستنبطة بطريق الاجتهاد»، أو «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية». والفقه بالمعنى الاصطلاحي يطلق على العلم المسمى بـ(علم فروع الفقه). فالعلم بالذوات من أجسام وصفات وسواها ليس فقها؛ لأنه ليس علم أحكام. والعلم بالأحكام العقلية والحسية والوضعية كأحكام الحساب والنحو والصرف لا يسمى فقها؛ لأنه علم أحكام ليست بشرعية، وعلم أحكام أصول الدين وأصول الفقه ليس فقها، لأنها أحكام شرعية علمية وليست عملية، وعلم المقلد بالأحكام الشرعية العملية لا يسمى فقها؛ لأنه علم ليس عن استدلال، وما هو معلوم بالضرورة لا يسمى فقها؛ لأنه من غير استدلال. فهو: «العلم الحاصل بالاجتهاد»، والفقيه لا يطلق إلا على المجتهد. قال العمريطي في منظومته على الورقات لإمام الحرمين:

والفقه علم كل حكم شرعي                جاء اجتهادا دون نص قطعي.

والفقه في اصطلاح الفقهاء هو: «استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها»، أو هو كما حكاه البغوي في تعليقه نقلا عن القاضي حسين حيث قال: الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان، أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان. وقال ابن سراقة: حده في الشرع: عبارة عن اعتقاد علم الفروع في الشرع، ولذلك لا يقال في صفاته سبحانه وتعالى: فقيه. قال: وحقيقة الفقه عندي: الاستنباط، قال الله تعالى: ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾، واختيار ابن السمعاني في القواطع أنه استنباط حكم المشكل من الواضح، قال: «وقوله صلى الله عليه وسلم  : «رب حامل فقه غير فقيه» أي: غير مستنبط ومعناه: أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط فيها»، وقال في ديباجة كتابه: وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج درا، وغيره مستخرج آجرا. ويؤخذ من تعريفهم الفقه بأنه (استنباط الأحكام): أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه في اصطلاح الفقهاء، وأن حافظها ليس بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح المستصفى، قال: وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها فروعي، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها، ونحوه قول ابن عبد السلام: هم نقلة فقه لا فقهاء. وفي اصطلاح علماء الفروع هو: «العلم بالأحكام الشرعية العملية الناشئة عن الاجتهاد». أو هو حفظ أو معرفة مجموعة من الأحكام الشرعية العملية الواردة بالكتاب والسنة وما استنبط منها، سواء كان مع أدلتها أو بغير الأدلة، أو هو: معرفة الأحكام الشرعية العملية التي نزل بها الوحى، قطعية كانت أو ظنية، وما استنبطه المجتهدون.

 

علم فروع الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المتعلقة بأفعال العباد في عباداتهم أو في معاملاتهم وعلاقتهم الأسرية وجناياتهم والعلاقات بين المسلمين بعضهم البعض، وبينهم وبين غيرهم، في السلم والحرب، وغير ذلك. والحكم على تلك الأفعال بأنها واجبة، أو محرمة، أو مندوبة، أو مكروهة، أو مباحة، وأنها صحيحية أو فاسدة، أو غير ذلك؛ بناء على الأدلة التفصيلية الواردة في الكتاب والسنة وسائر الأدلة المعتبرة.

الفرق بين الفقه وبين أصول الفقه عند علماء الأصول هو: أن أصول الفقه هي: الأدلة الإجمالية الموصلة للفقه، والفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة. وعلم فروع الفقه هو: أيضاً العلم بالدليل الشرعي التفصيلي، من الكتاب أو السنة أو غيرهما، لكل مسألة من المسائل. والفرق بين الفقه والعلم: أن الفقه بالمعنى الشرعي أخص من العلم لصدق العلم بالنحو وغيره، فكل فقه علم، وليس كل علم فقها.

مقدمات

العلم والجهل

العلم معرفة المعلوم، أي إدراك ما من شأنه أن يعلم على ما هو به في الواقع، كإدراك الإنسان بأنه حيوان ناطق. ومقابل العلم الجهل، وعرفه إمام الحرمين بأنه: تصور الشيء، أي: إدراكه على خلاف ما هو به في الواقع، كإدراك الفلاسفة أن العالم وهو ما سوى الله تعالى قديم. وعلى ما ذكره إمام الحرمين فعدم العلم لا يسمى جهلا. وبعض علماء الأصول قسم الجهل إلى قسمين: بسيط ومركب، فالجهل البسيط عدم العلم بالشيء، كعدم علمنا بما تحت الأرضين، وبما في بطون البحار، والجهل المركب: إدراك الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، وهو أسوء القسمين؛ لأن الجاهل المركب يجهل الحقيقة ويجهل في نفس الوقت أنه جاهل بها. وينقسم العلم إلى ضروري ومكتسب، فالعلم الضروري ما لم يقع عن نظر واستدلال، كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، وهي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق، فإنه يحصل بمجرد الإحساس بها من غير نظر واستدلال. وأما العلم المكتسب؛ فهو الذي يفتقر في حصوله على النظر والاستدلال، كالعلم بأن العالم حادث، فإنه موقوف على النظر في العالم وما نشاهده فيه من التغير، فينتقل من تغيره إلى حدوثه.

والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه ليؤدي إلى المطلوب. والاستدلال طلب الدليل ليؤدي إلى المطلوب فمؤدى النظر والاستدلال واحد لكن جمع إمام الحرمين بينهما في الإثبات والنفي تأكيدا. والدليل هو المرشد إلى المطلوب؛ لأنه علامة عليه. والظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر عند المجوز. والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر عند المجوز، فالتردد في قيام زيد ونفيه على السواء شك، ومع رجحان الثبوت أو الانتفاء ظن.

أبواب أصول الفقه

علم أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها، وأبواب أصول الفقه أو موضوعاته التي يتناولها البحث فيه تشمل: المقدمات وهي عبارة عن مبادئ وتعريفات وأوليات ومنها: تعريف أصول الفقه بمعناه الإضافي واللقبي، وتعريف الفقه في اللغة والاصطلاح، وتعريف الأصول، ومبادئ علم أصول الفقه ومنها: حده أي: تعريفه وموضوعه ومباحثه واسمه وحكمه وغير ذلك. والعلم والجهل والشك والظن والنظر والاستدلال. ثم اللغات إذ أن معرفة نصوص الأدلة الشرعية تحتاج إلى معرفة اللغة، وهي الألفاظ ودلالاتها والحقيقة والمجاز والعام وصيغ العموم، والخاص والتخصيص وأقسام المخصص، والمجمل والبيان والنص والظاهر والمؤل، والأمر والنهي والعموم والخصوص والمجمل والمبين، ومن أبواب أصول الفقه: أقسام الحكم الشرعي: الخطاب التكليفي وخطاب الوضع، والصحيح والباطل أو الفاسد والشروط والموانع والأسباب، والأفعال والناسخ والمنسوخ والنسخ ومسائله بين الكتاب والسنة ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر، والتعارض، والإجماع وبيان حجيته، وحجية قول الصحابي، والأخبار والمسند والقياس والاستصحاب، والتراجيح والاستفتاء وشروط المفتي أو المجتهد وشروط المستفتي، والاجتهاد. والأمور التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي طرق للأحكام الشرعية أم لا.

وفي متن الورقات لأبي المعالي الجويني: أبواب أصول الفقه: أقسام الكلام والأمر والنهي والعام والخاص ويذكر فيه المطلق والمقيد والمجمل والمبين والظاهر، وفي بعض النسخ والمؤول، والأفعال والناسخ والمنسوخ والإجماع والأخبار والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة وصفة المفتي والمستفتي وأحكام المجتهدين.

موضوع علم أصول الفقه

موضوع علم أصول الفقه هو: الأدلة السمعية، أو أقسام الأدلة. والموضوع لأي علم: قد يكون واحدا كالعدد للحساب، وقد يكون كثيرا، وشرطه أن يكون بينهما تناسب، أي: مشاركة. وموضوع أصول الفقه قد اجتمع فيه الأمران، فإنه إما واحد، وهو الدليل السمعي من جهة إنه موصل للحكم الشرعي، وإما كثير، وهو أقسام الأدلة السمعية من هذه الجهة، لاشتراكها إما في جنسها، وهو الدليل، أو في غايتها، وهو العلم بالأحكام الشرعية. فموضوع علم أصول الفقه هو: أدلة الفقه الكلية، وأحوالها الموصلة إلى الأحكام، وصفات المجتهد. كما يبحث هذا العلم في أقسام هذه الأدلة وإقامة الحجة على مصدر للأحكام الشرعية كما يبحث في ترتيب هذه الأدلة، وجعلها على مراتب مختلفة، وفي كيفية استنباط الأحكام منها على وجه كلي، فالأصول لا ينظر في الأدلة التفصيلية، ولا فيما تدل عليه من الأحكام الجزئية، وإنما ينظر في الأدلة التي يتوصل بها إلى الأحكام، وهذه القواعد يطبقها الفقيه على الأدلة التفصيلية فيحصل بذلك على الأحكام الجزئية، والمراد بالدليل الكلي هو: النوع العام من الأدلة الذي تندرج تحته عدة جزئيات كالأمر مثلا فهو كلي تندرج تحته جميع الأوامر التي جاءت بها الشريعة الإسلامية على اختلاف أساليبها أو المراد بالحكم الكلي: النوع العام من الأحكام الذي تندرج تحته عدة جزئيات، كالإيجاب مثلا فهو يشمل إيجاب الصلاة والزكاة والصدق ووفاء العهد ونحو ذلك مما طلب الشارع الإتيان به على وجه الجزم والإلزام. ومسائله: كالأمر والنهي، والعام، والخاص، والإجماع، والقياس، وغيرها. ومسائل كل علم هي مطالبه الجزئية التي يطلب إثباتها فيه كمسائل العبادات، والمعاملات ونحوها للفقه.

الحكم الشرعي

الحكم الشرعي هو: «خطاب الشرع المتعلق بالمكلف، اقتضاء أو تخييرا أو وضعا». والشرع: «ماشرعه الله على لسان نبيه من أحكام». فالحكم الشرعي هو: «ما اقتضى الشرع فعله أو تركه أو التخيير بين الفعل والترك، وما وضعه الشرع متعلقا بحكم شرعي». والحكم الشرعي إما أن يكون من قبيل الاقتصاء، أو التخيير، أو الوضع، فهو ثلاثة أقسام، لكن يدخل التخيير ضمن الاقتضاء فيكون له قسمان هما: (الاقتضاء والوضع)، فالاقتضاء هو: الحكم التكليفي، والوضع هو: الحكم الوضعي، والمقصود بالحكم الوضعي في أصول الفقه: ما وضعه الشرع متعلقا بحكم، مثل: وضع المواقيت المتعلقة بالعبادة.

الأحكام التكليفية

الحكم التكليفي باعتبار دخول التخيير ضمن الاقتضاء، هو: ما اقتضى الشرع فعله، أو تركه، أو التخيير بين الفعل والترك ويسمى: «تكليفيا»؛ لتعلقه بالمكلف، وتمييزا له عما هو من قبيل الوضع. وللحكم التكليفي، خمسة أقسام أساسية، وتدخل فيها باقي الأقسام الفرعية، وتؤخذ هذه الأحكام الخمسة، من تعريف الحكم التكليفي، في كونه يقتضي إما؛ الفعل أو الترك أو التخيير، فهذه ثلاثة أقسام على جهة الإجمال، وتتضمن خمسة أحكام هي كما يلي:

القسم الأول: اقتضاء الفعل وهو: ما اقتضى الشرع فعله، إما على وجه الإلزام أو بغير إلزام، فيدخل فيه نوعان أحدهما: ما اقتضى الشرع فعله على وجه الإلزام وهو الفرض، أو اللازم أو الحتمي أو الواجب كلها بمعنى واحد عند الجمهور خلافا للحنفية حيث فرقوا بين الواجب والفرض. وثانيهما: ما اقتضى الشرع فعله لا على وجه الإلزام وهو: المندوب.

القسم الثاني: اقتضاء الترك وهو: ما اقتضى الشرع تركه إما على جهة الإلزام أو بغير إلزام، فيدخل فيه نوعان أحدهما: ما اقتضى الشرع تركه على وجه الإلزام وهو: الحرام، ويشمل أيضا: المكروه كراهة تحريم. وثانيهما: ما اقتضى الشرع تركه لا على وجه الإلزام وهو: المكروه كراهة تنزيه، ويشمل أيضا: خلاف الأولى.

القسم الثالث: اقتضاء التخيير وهو: ما اقتضى الشرع التخيير بين فعله وبين تركه وهو: المباح، ومعنى التخيير: استواء الفعل والترك. وتدخل ضمن هذه الأحكام، أحكام أخرى، مثل؛ دخول (خلاف الأولى) ضمن المكروه.

خطاب الوضع

الحكم الشرعي الوضعي هو: الحكم الشرعي غير التكليفي. وهو: «ما استفيد بواسطة نصب الشارع علما معرفا لحكمه» ويشمل: السبب والمانع، والشرط، والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان، والقضاء، والأداء، والإعادة. وهذا هو القسم الثاني من قسمي الأحكام الشرعية وهو: ما يرجع إلى خطاب الوضع وهو أنواع النوع الأول: في الأسباب، والنوع الثاني: في الشروط، والنوع الثالث: في الموانع، والنوع الرابع: في الصحة والبطلان، والنوع الخامس: في العزائم والرخص. قال الشاطبي: القسم الثاني من قسمي الأحكام وهو يرجع إلى خطاب الوضع، وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع، والصحة والبطلان، والعزائم والرخص، فهذه خمسة أنواع. قال الشاطبي: الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان: أحدهما: خارج عن مقدور المكلف، والآخر: ما يصح دخوله تحت مقدوره، فالأول قد يكون سببا، ويكون شرطا، ويكون مانعا. فالسبب مثل: الاضطرار فإنه يكون سببا في إباحة الميتة، وخوف العنت فإنه يكون سببا في إباحة نكاح الإماء، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر فإنه يكون سببا في إيجاب تلك الصلوات في تلك الأوقات المحددة لها، ونحو ذلك من الأسباب التي هي مما هو خارج عن مقدور المكلف. والشرط: مثل كون الحول شرطا في إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطا في التكليف مطلقاً، والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع، والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب، وما كان نحو ذلك من الشروط التي هي مما ليس بمقدور المكلف. والمانع: مثل الحيض من حيث أنه يكون مانعا من الوطء حال الحيض، وكونه مانعا من الطواف بالبيت، ووكونه مانعا من وجوب الصلوات وأداء الصيام، وكون الجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك من الموانع مما ليس بمقدور المكلف، بمعنى: أن غروب الشمس أو حلول الحول مثلا: مما لا يدخل تحت مقدور المكلف.

وأما الضرب الثاني وهو ما يصح دخوله تحت مقدور المكلف: فله نظران الأول: من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف، -سواء كان مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه- من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا، مثل البيع والشراء للانتفاع، قال الله تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا..﴾، فاقتضاء جلب المصلحة من حيث أن الله أحل البيع من أجل انتفاع الناس، واقتضاء دفع المفسدة في تحريم الربا. وأيضا مثل النكاح للنسل، والانقياد للطاعة لحصول الفوز، وما أشبه ذلك. والنظر الثاني: من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببا أو شرطا أو مانعا. أما السبب: فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع، والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببا للقصاص، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات، وغير ذلك فهذه الأمور وضعت أسبابا لشرعية تلك المسببات. وأما الشرط: فمثل كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا، وكون الإحصان شرطا في رجم الزاني، وكون الطهارة شرطا في صحة الصلاة، والنية شرطا في صحة العبادات ونحو ذلك، فهذه الأمور ليست بأسباب، ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات. وأما المانع فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى؛ لتحريم الجمع بين المرأة وأختها، وكون نكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها، وكون الإيمان مانعا من القصاص للكافر، والكفر مانعا من قبول الطاعات، وأشباه ذلك. ذكره الشاطبي وقال: وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا كالإيمان هو سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها، ومانع من القصاص منه للكافر، وأمثلة ذلك كثيرة غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد، فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له؛ لما في ذلك من التدافع، وإنما يكون سببا لحكم وشرطا لآخر ومانعا لآخر، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة، كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف.

تاريخ علم أصول الفقه

التأسيس والتطور

كان الاستدلال الفقهي للأحكام الشرعية في بدايات التاريخ الإسلامي يبنى على أصول الفقه التي كانت حاضرة في أذهان فقهاء الصحابة وكانوا إذا استنبطوا أحكاماً شرعية لتطبيقها على وقائع جديدة؛ يصدرون استنباطهم عن أصول مستقرة في أنفسهم، علموها من نصوص الشريعة وروحها، ومما أخذوه وعايشوه، وربما صرح بعضهم في بعض المسائل بالأصل الذي استند إليه في استنباطه للحكم الفرعي، كقول علي رضي الله عنه في عقوبة شارب الخمر: «إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد المفترين». والمفتري هو القاذف الذي ورد في قول الله تعالى: ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون﴾. فيكون علي قد قرر أن علة الافتراء هي السكر، فيحكم على السكران بحكم المفتري أو القاذف، وبذلك يكون قد قرر قاعدة أصولية.

وفي عهد التابعين ومن بعدهم كثرت الحاجة إلى الاستنباط، لكثرة الحوادث التي نشأت عن دخول بلاد شاسعة تحت الحكم الإسلامي. فتخصص في الفتيا كثير من فقهاء التابعين، فاحتاجوا إلى أن يسيروا في استنباطهم على قواعد محددة، ومناهج معروفة، وأصول واضحة، وكان لبعضهم كلام واضح في أثناء كلامهم في علم الفقه، غير أن علم أصول الفقه بمعناه العلمي الذي يقصد به الفن الموضوع بقوانين، لم يتميز عن غيره إلا في القرن الثاني الهجري تقريبا، وكان للإمام الشافعي الدور الأساسي في جمع مباحث الأصول في كتابه: «الرسالة»، إضافة إلى تجديد وإضافة القواعد الأساسية في علم الأصول حتى تم تعديله وشرحه وإضافة القواعد الأخرى على يد العلماء العاملين من مختلف المذاهب الإسلامية. قال ابن خلدون في تاريخه: «واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة»، حيث لم يكن موجودا بهذا المسمى في الصدر الأول من عصر السلف؛ لأنهم كانوا في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها المجتهد في استفادة الأحكام خصوصا؛ فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم

وبعد حقبة الصدر الأول من السلف وتحول العلوم كلها صناعة، بدء تطور العلوم الشرعية، من خلال تدوين المذاهب الفقهية، وكانت هناك طريقتان في الاستدلال: طريقة أصحاب الرأي في العراق، وكان أشهر أعلامهم أبو حنيفة النعمان ثم أصحابه من بعده، وطريقة أصحاب الحديث في الحجاز، وكان أشهر أئمتهم مالك بن أنس ثم الشافعي من بعده، وكانت المذاهب الفقهية تعمتد على أصول فقهية تبنى عليها، وكان أصحاب الرأي أكثر اهتماما بقواعد الاستدال العقلي، بينما كان أهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا أكثر تعرضا لذكر الدلائل من أهل الرأي. وكان اتجاه المذاهب الفقهية قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها وردها إلى أدلتها التفصيلية عندما تكون دلائلها نصوصا. فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ ما فيهما من نقص بدا له أن يكمله وأخذ ينقض بعض التفريعات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريق الاستنباط. وذلك يشعر باتجاهه الجديد في الفقه الذي لم يقتصر على الفروع فقط، بل اتجه إلى الاهتمام بأصول الفقه، التي لم تكن مقصورة على مذهبه الفقهي، بل لتكون منهجا عاما للاستدلال. قال ابن خلدون: «احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها وكتب المتكلمون أيضا كذلك». وقد كان الشافعي من المتصدرين في وضع القواعد اللغوية، وتأسيس قواعد مهمة في علم التفسير والحديث.

أول من صنف في الأصول

قال بدر الدين الزركشي: «الشافعي رضي الله عنه أول من صنف في أصول الفقه صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب "القياس" الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثم تبعه المصنفون في الأصول». وقال الإمام أحمد بن حنبل: «لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي». وقال الجويني في شرح الرسالة: «لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها». وقد حكي عن ابن عباس: تخصيص عموم، وعن بعضهم: القول بالمفهوم، ومن بعدهم لم يقل في الأصول شئ ولم يكن لهم فيه قدم، فإنا رأينا وكتب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم لم ينقل عنهم فيها أنهم صنفوا فيه. قال بدر الدين الزركشي: «واعلم أن الشيخ أبا الحسن الأشعري كان يتبع الشافعي في الفروع والأصول وربما يخالفه في الأصول، كقوله بتصويب المجتهدين في الفروع، وليس ذلك مذهب الشافعي، وكقوله: "لا صيغة للعموم"». قال الشيخ أبو محمد الجويني: «ونقل مخالفته أصول الشافعي ونصوصه وربما ينسب المبتدعون إليه ما هو بريء منه كما نسبوا إليه أنه يقول: ليس في المصحف قرآن، ولا في القبور نبي، وكذلك الاستثناء في الإيمان ونفي قدرة الخالق في الأزل، وتكفير العوام، وإيجاب علم الدليل عليهم. وقد تصفحت ما تصحفت من كتبه، وتأملت نصوصه في هذه المسائل فوجدتها كلها خلاف ما نسب إليه». وقال ابن فورك في كتاب شرح كتاب المقالات للأشعري في مسألة تصويب المجتهدين: «اعلم أن شيخنا أبا الحسن الأشعري يذهب في الفقه ومسائل الفروع وأصول الفقه أيضا مذهب الشافعي ونص قوله في كتاب التفسير في باب إيجاب قراءة الفاتحة على المأموم: خلاف قول أبي حنيفة، والجهر بالبسملة: خلاف قول مالك، وفي إثبات آية البسملة في كل سورة آية منها قرآنا منزلا فيها، ولذلك قال في كتابه في أصول الفقه بموافقة أصوله».

من جهة أخرى فقد قيل إن أول من صنف في علم أصول الفقه وضبط القواعد هما: أبو يوسف، ومحمد تلميذا أبي حنيفة، وقيل: بل أبو يوسف وحده هو أول من صنف في علم أصول الفقه، إلا أنه لم يصل من ذلك شيء من الكتب في هذا المجال. وفي قول ثالث: إن أول من كتب في أصول الفقه هو أبو حنيفة النعمان حيث كتب كتاباً أسماه كتاب الرأي، ولكن لم يصل من ذلك شيء، والذي اشتهر قديما وحديثا: أن الشافعي أول من دون في علم أصول الفقه، وكتب فيه بصورة مستقلة في كتابه المشهور: الرسالة -وهو كتاب متداول مطبوع- وقد صرح بذلك جمع كابن خلكان وابن خلدون. قال الرازي: «اتفق الناس على: إن أول صنف في هذا العلم -أي: علم أصول الفقه- الشافعي، وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها في القوة والضعف». وروى: أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقران والسنة، والإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص فوضع الشافعي رضى الله عنه: «الرسالة» وبعثها إليه، فلما قرأها عبد الرحمن بن المهدي قال: ما أظن أن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل.

قال الرازي: «واعلم: أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة ارسططاليس إلى علم المنطق وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض». بمعنى أنه أول من جمع كتابا شاملا حول هذا الموضوع بالذات، فالخليل بن أحمد هو أول من وضع علم العروض، وصاغ قواعده، وقد كان نظم الشعر قبله يعتمد على القريحة وبمجرد الطبع. وكذلك قبل الإمام الشافعي، وأضاف فخر الدين الرازي: كان الذين يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها، وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم (أصول الفقه) ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة أدلة الشرع. ويقول الرازي: «واعلم إن الشافعي صنف كتاب: الرسالة ببغداد ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب: الرسالة وفي كل واحد منهما علم كثير». وفي كتب طبقات الفقهاء للقاضي شمس الدين العثماني الصفدي: «وابتكر الشافعي ما لم يسبق إليه من ذلك أصول الفقه فانه أول من صنف أصول الفقه بلا خلاف». قال صاحب كتاب كشف الظنون: «وأول من صنف فيه الإمام الشافعي» ذكره الأسنوي في التمهيد وحكى الإجماع فيه.

وذكر ابن النديم في كتاب الفهرست في ترجمة محمد بن الحسن ذكر كتاب له يسمى كتاب أصول الفقه. ويقول الموفق المكي في كتابه: مناقب الإمام الأعظم نقلا عن طلحة بن محمد بن جعفر: إن أبا يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. ونقل ذلك طاش كيري زاده في كتابه مفتاح السعادة. ولم يرد كتاب في هذا العدد فيما أورده صاحب الفهرست لأبي يوسف من الكتب، وإذا صح إن لأبي يوسف أو لمحمد كتابا في أصول الفقه؛ فهو فيما يذكر فيه لتأييد ما كان يأخذ به أبو حنيفة مما يخالف فيه أهل الحديث من الاستحسان، والقول بان أبا يوسف هو أول من تكلم في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة لا يعارض القول بان الشافعي هو الذي وضع أصول الفقه علما ذا قواعد عامه يرجع إليها كل مستنبط لحكم شرعي وقد لا يكون بعيدا عن غرض الشافعي في وضع أصول الفقه: إن يقرب الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث ويمهد للوحدة التي دعا إليها الإسلام.

تدوين علم أصول الفقه

بدء تدوين علم أصول الفقه بعد فترة الصدر الأول من السلف، وظهور عصر التدوين للعلوم الشرعية، الذي احتاج فيه الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه مستقلا عن غيره من العلوم سموه أصول الفقه. قال ابن خلدون: «وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس». ثم كتب فقهاء الحنفية في هذا الفن بعد الشافعي، وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضا كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة ومنها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. وأما المتكلمون فإنهم يجردون صور تلك المسائل على الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن؛ لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم. قال ابن خلدون: «فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن، وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده».

وعني الناس بطريقة المتكلمين في هذا الفن وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب: «البرهان» لإمام الحرمين، وكتاب «المستصفى» لأبي حامد الغزالي، وهما من الأشعرية، وكتاب: «العهد» لعبد الجبار وشرحه «المعتمد» لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة، وكانت هذه الأربعة الكتب قواعد هذا الفن وأركانه، ثم لخص هذه الكتب الأربعة من المتأخرين الإمام فخر الدين بن الخطيب، في كتاب: «المحصول»، وسيف الدين الآمدي في كتاب: «الأحكام». واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج، فقد كان فخر الدين ابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، وكان سيف الدين الآمدي أكثر اهتماما بتحقيق المذاهب، وتفريع المسائل.

وكتاب المحصول لابن الخطيب اختصره تلميذه سراج الدين الأرموي في كتاب: «التحصيل»، واختصره تاج الدين الأرموي في كتاب: «الحاصل»، واقتطف شهاب الدين القرافي منهما أي: من الكتابين: مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه«التنقيحات»، وكذلك فعل البيضاوي في كتاب: «المنهاج». واعتنى المبتدئون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب: «الأحكام» لسيف الدين الآمدي فقد كان أكثر تحقيقا في المسائل، وقد لخصه أبو عمر ابن الحاجب في كتابه المعروف بـ«المختصر الكبير»، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبه العلم وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات.

وأما طريقة الحنفية في هذا الفن؛ فقد كتبوا فيها كثيرا، وكان من أحسن كتابة فيها للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي، وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي -من أئمة الحنفية- وهو مستوعب لطريقتهم، وجاء ابن الساعاتي -من فقهاء الحنفية- فجمع بين كتاب الأحكام، وكتاب البزدوي في الطريقتين في كتابه الذي سماه: بـ«البدائع»، قال عنه ابن خلدون: «فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا وأولع كثير من علماء العجم بشرحه والحال على ذلك لهذا العهد»

الأصول التي يبنى الفقه عليها

الأصول التي يبنى عليها الفقه هي الأدلة الإجمالية للفقه أو هي: أدلة الأحكام الشرعية، قال أبو حامد الغزالي في أدلة الأحكام وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي، فأما قول الصحابي وشريعة ما قبلنا فمختلف فيه. والأصل الأول من أصول الأدلة: كتاب الله تعالى، ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، قال بدر الدين الزركشي: اختلف العلماء في عدد الأصول التي يبنى عليها الفقه، فالجمهور على أنها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. قال الرافعي في باب القضاء: وقد يقتصر على الكتاب والسنة، ويقال: الإجماع يصدر عن أحدهما، والقياس الرد إلى أحدهما فهما أصلان. قال في المطلب: وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا عن إمارة، ولا عن دلالة، وجوز القياس على المحل المجمع عليه. قال أبو حامد الغزالي في المستصفى: «واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أن أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول الرسول ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى. وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه». وفي كلامه: أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حق من تعلق به؛ فلا يظهر إلا بقول الرسول إذ لا يصل إلينا ما جاء من عند الله إلا بواسطته، فباعتبار المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله. وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى، لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق. واختصر بعضهم فقال: أصل ومعقول أصل، فالأصل للكتاب والسنة والإجماع، ومعقول الأصل هو القياس.

قال ابن السمعاني: وأشار الشافعي إلى أن جماع الأصول نص ومعنى، فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص، والمعنى هو القياس، وزاد بعضهم العقل فجعلها خمسة. وقال أبو العباس بن القاص: الأصول سبعة: الحس، والعقل، والكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، واللغة. قال الزركشي: والصحيح: أنها أربعة، وأما العقل: فليس بدليل يوجب شيئا أو يمنعه، وإنما تدرك به الأمور فحسب، إذ هو آلة العارف، وكذلك الحس لا يكون دليلا بحال؛ لأنه يقع به درك الأشياء الحاضرة. وأما اللغة: فهي مدركة اللسان، ومطية لمعاني الكلام، وأكثر ما فيه معرفة سمات الأشياء ولا حظ له في إيجاب شيء. وقال الجيلي في الإعجاز: أنها أربعة: الكتاب والسنة والقياس ودليل البقاء على النفي الأصلي، وردها القفال الشاشي إلى واحد فقال: أصل السمع هو كتاب الله تعالى، وأما السنة والإجماع والقياس فمضاف إلى بيان الكتاب؛ لقوله تعالى: ﴿تبيانا لكل شيء﴾ وقوله: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾. وفي الحديث: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه». روي عن ابن مسعود أنه لعن الواصلة والمستوصلة، وقال: «ما لي لا ألعن من لعنه الله». فقالت امرأة: قرأت كتاب الله فلم أجد فيه ما تقول، فقال: «إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وأن النبي لعن الواصلة والمستوصلة». وجاء في رواية مسلم بلفظ: «لعن الله الواصلة والمستوصلة». فأضاف عبد الله بن مسعود بلطيف حكمته قول الرسول إلى كتاب الله، وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا يوجد في الكتاب والسنة نصا. قال بدر الدين الزركشي: «قلت: ووقع مثل ذلك للشافعي في مسألة قتل المحرم للزنبور». قال الأستاذ أبو منصور: وفي هذا دليل على أن الحكم المأخوذ من السنة أو الإجماع أو القياس مأخوذ من كتابه سبحانه؛ لدلالة كتابه على وجوب اتباع ذلك كله.

الأدلة

الكتاب – السنة – الإجماع – القياس - قول الصحابي - شرع من قبلنا – العرف - المصالح المرسلة

سد الذرائع – الاستحسان – الاستصحاب – الاستقراء - عند المالكية - عمل أهل المدينة - عند الشيعة الجعفرية – الكتاب – السنة - (أقوال وأفعال وتقريرات الأئمة المعصومين) – الإجماع

الخاتمة :

تعتبر الدعوة من أهم الأشياء التي يحصل عليها الإنسان الغير مختص بالأحكام الشرعية، حيث يمكن أن يساعده دراسة أصول الفقه في الدعوة إلى الدين الإسلامي ، و التمكن من معرفة الدلائل و البراهين التي تساعده في إقناع الناس من خلال المعلومات التي يعرفها و يريد إيصالها إليهم.

و يعتبر التدريس من الأشياء المهمة  التي تسبب الاستفادة من خلال دراسة علم أصول الفقه لغير المجتهد، حيث القيام بدراسة علم أصول الفقه تتيح للإنسان الاستفادة و المعرفة بالأحكام من خلال تدريس الحديث أو علم الحديث إلى الأفراد الآخرين .حيث من  المعروف أن علم أصول الفقه يحتوي على الكثير و العديد من الأحكام و الدلائل التي تعتمد على أحاديث نبوية شريفة يستخدمها الإنسان في ترسيخ و تثبيت المعلومات في الكثير من الأوقات .

و مما تقدم نكون قد وصلنا إلى ختام مقالنا الذي كان عنوانه خاتمة بحث عن أصول الفقه ، حيث تناولنا تعريف أصول الفقه و الفترة الزمنية الذي شرع به و بدأ ينتشر على يد خاتم الأنبياء الرسول الكريم محمد صلى الله عليه و سلم ، و الفائدة التي يمكن أن نحصل عليها من دراسة أصول الفقه ، و أخيراً خاتمة عن أصول الفقه.


 

المراجع :

1.     موقع ويكبيديا

2.     محمد بن علي الشوكاني (1418 هـ 1998م). إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الفصل الأول في: تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته. دار السلام. صفحة 41 إلى 48. مؤرشف من الأصل في 08 ديسمبر 2019. اطلع عليه بتاريخ 25/ المحرم/ 1438 هـ.

3.     نجم الدين أبو الربيع سليمان بن سعيد الطوسي (1407 هـ/ 1987 م.). شرح مختصر الروضة، الفصل الأول، تعريف أصول الفقه باعتباره مركبا. مؤسسة الرسالة. صفحة 120. مؤرشف من الأصل في 08 ديسمبر 2019. اطلع عليه بتاريخ 25/ المحرم/ 1438 هـ.

4.     عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد تحقيق: د. عبد العزيز عبد الرحمن السعيد (1399 هـ). روضة الناظر وجنة المناظر (تعريف الفقه وأصول الفقه) (الطبعة الثانية). (الرياض): جامعة الإمام محمد بن سعود. صفحة 7. مؤرشف من الأصل في 25 فبراير 2017. اطلع عليه بتاريخ 5/ المحرم/ 1438 هـ.

5.     ابن خلدون المتوفى: 852 هـ. (1419 هـ 1989 م). تاريخ ابن خلدون ج1. صفحة 454 إلى 456. مؤرشف من الأصل في 07 فبراير 2017. اطلع عليه بتاريخ 25/ المحرم/ 1438 هـ.

6.     الوجيز في أصول الفقه عبد الكريم زيدان، ج1 ص16 نسخة محفوظة 6 مارس 2020 على موقع واي باك مشين.

7.     مركز الفتوى. (1419 هـ 1989 م). موقع إسلام ويب، (من هو أول من صنف في أصول الفقه). إسلام ويب. مؤرشف من الأصل في 26 فبراير 2019. اطلع عليه بتاريخ 25/ المحرم/ 1438 هـ.

8.     تقي الدين أبو البقاء الفتوحي. شرح الكوكب المنير (أدلة الفقه المتفق عليها). مطبعة السنة المحمدية. صفحة 163. مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2016. اطلع عليه بتاريخ 25/ المحرم/ 1438 هـ.

9.     مذكرة أصول الفقه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ج1 ص1 نسخة محفوظة 02 مارس 2017 على موقع واي باك مشين.

10. بيان المختصر نسخة محفوظة 07 فبراير 2017 على موقع واي باك مشين.

11. إجابة السائل شرح بغية الآمل، محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ج1 ص22 مؤسسةالرسالة بيروت الطبعة الأولى، 1986 تحقيق: القاضي حسين بن أحمد السياغي والدكتور حسن محمد مقبولي الأهدل نسخة محفوظة 11 فبراير 2017 على موقع واي باك مشين.

12. سعد الدين بن عمر التفتازاني. كتاب شرح التلويح على التوضيح. ص. 22

13. بدر الدين الزركشي (1414هـ/ 1994م.). البحر المحيط في علم أصول الفقه، تعريف أصول الفقه ج1 (الطبعة 14). دار الكتبي. صفحة 24.

14. متن الورقات في أصول الفقه لإمام الحرمين (المقدمة).

15. أبو الثناء محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصبهاني (1406 هـ/ 1986م). بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، المبادئ، المبادئ الأصولية، حد أصول الفقه مضافا، الجزء الأول. دار المدني. صفحة 17 و18.

16. ابن منظور (2003م). لسان العرب لابن منظور حرف الألف (أصل) ج1. دار صادر. صفحة 114.

https://abhaskom.blogspot.com/

هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع