أثر سب الصحابة رضي الله عنهم
من المعلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن صحابة النبي صلى
الله عليه وسلم كلهم عدول، وهذه من مسائل العقيدة القطعية، ومما هو معلوم من الدين
بالضرورة، والأدلة على ذلك كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
إن منزلة الصحابة
منذ فجر التاريخ وحتى هذا الوقت كان لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الدور البارز
في نصرة الإسلام وانتشاره وارتقائه، فقد كانوا نِعمَ الجنود ونِعمَ القادة، وكانوا
في وقت الدعوة نعم الرجال والدعاة، بلّغوا عن ربهم ما استأمنهم عليه حقَّ التبليغ،
ونصروا نبيهم وناصروه في أوقات الضعف والقوة، بهم قويت شوكة الإسلام، ومن خلالهم وصل
صوت الحق إلى أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً، وبسبب حسن أخلاقهم وطيب معدنهم آمن الكثير
بالدين الإلهي الحق، فقد كان لوجودهم أسمى أثرٍ في نُصرة الإسلام، وكان لاشتراكهم في
المعارك والغزوات دورٌ بالغ الأهمية في تحصيل النصر والظفر على الأعداء، وكسر شوكة
من أراد بالإسلام وأهله الشرَّ، وكاد له الدسائس والأحقاد، ولأجل كلِّ ذلك فقد جعل
الله لهم فضلاً عن غيرهم من البشر، فهم أفضل الخلق بعد الرسل والأنبياء بلا أدنى شك،
ومن فضلهم أن جعل الإساءة لهم إساءةً للإسلام، فما حكم سبِّ الصحابة شرعاً والإساءة
لهم وتحقيرهم؟
أولًا: الأدلة من القرآن الكريم على عدالة الصحابة:
تجد أن رب العالمين في كثير من الآيات القرآنية يثني على الصحابة،
ويترضى عنهم؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ
وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، فتجد في هذه الآية أن الله تعالى زكى
بواطنهم وما في قلوبهم، وهذا لا يعلمه إلا الله؛ لذا ترضى عنهم، يقول ابن حزم رحمه
الله تعالى كما في "الفصل في الملل والنحل" (4/ 148):
"فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم،
وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة"؛ اهـ.
وقال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
"وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور"؛ (زاد المسير: 1/ 204).
• وقال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في "الصارم
المسلول" (ص572):
"فرَضِيَ عن السابقين عن غير اشتراط إحسان، ولم يرضَ عن
التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان"؛ اهـ.
• وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ
قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا
مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾[1] [الحديد: 10].
وقد استدل ابن حزم رحمه الله تعالى بهذه الآية على: "أن
الصحابة جميعًا من أهل الجنة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
﴾ [الحديد: 10]؛ (الفصل في الملل والنحل: 4/ 148).
• وقال تعالى: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ [النمل: 59]. يقول سفيان الثوري والسدي في هذه الآية: "هم
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"؛ (تفسير ابن كثير: 3/ 503).
وقال تعالى: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ ﴾ [سبأ: 6]. يقول قتادة رحمه الله تعالى في هذه الآية: "هم أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم"؛ (تفسير الطبري: 22/ 44).
وهناك كثير من الآيات التي تبين مكانة الصحابة ورفعة درجاتهم،
كيف لا؟ وهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأبنائهم
وأموالهم، وقاتلوا دونه، ورفعوا رايته، وأعزوا سنته، ونصروا شريعته.
• يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
"من كان منكم متأسيًا، فليتأسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا،
وأحسنها حالًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه؛ فاعرِفوا
لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"؛ (جامع بيان
العلم وفضله: 2/ 947).
ثانيًا: الأدلة من السنَّة المطهرة على عدالة الصحابة:
فكما أثنى رب العالمين على الصحابة أجمعين، فكذلك أثنى عليهم
النبي الأمين صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عمران بن الحصين
رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم[2]،
ثم الذين يلونهم...))؛ الحديث.
• ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبِّهم، وحذر من الطعن فيهم.
1) فقد أخرج الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي
الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سب أصحابي، فعليه لعنة الله، والملائكة،
والناس أجمعين))؛ (الصحيحة: 2340) (صحيح الجامع: 6285).
2) وأخرج الطبراني أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لعن اللهُ من سب أصحابي))؛ (صحيح الجامع:
5111).
3) وأخرج الطبراني كذلك عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا،
وإذا ذكر القدر فأمسكوا))؛ (صحيح الجامع: 545).
4) وأخرج ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احفظوني
في أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
5) وأخرج "البخاري ومسلم" عن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق
مثل أُحدٍ ذهبًا، ما بلغ مُدَّ[3] أحدهم، ولا نصيفه[4])).
6) وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم في "السنة" عن
واثلة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم
من رآني وصحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني))؛ (حسنه
الحافظ في الفتح: 7/ 5).
7) وأخرج الإمام أحمد والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم)).
8) وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا عليه قال:
"لا تسبوا أصحاب محمد؛ فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة".
• أما عن سب الصحابة وحكمه:
فإن سب الصحابة أنواع، ولكل نوع من السب حكمه الخاص به؛ فمن
رمى الصحابة بالكفر أو الفسق ليس كمن رماهم بالبخل أو ضعف الرأي، ويختلف كذلك الحكم
فيمن سبهم جميعًا أو أكثرهم، أو يكون السب لبعضهم أو لفرد منهم.
• أما من سب الصحابة بالكفر أو الفسق أو الردة، لجميعهم أو معظمهم،
فلا شك في كفره؛ لأن العلم الحاصل من الكتاب والسنة الدال على فضلهم قطعي، ومن أنكر
ما هو قطعي فقد كفر.
• يقول الهيثمي رحمه الله تعالى : "ثم الكلام - أي الخلاف
- إنما هو في سب بعضهم، أما سب جميعهم فلا شك في أنه كفر"؛ اهـ (الصواعق المحرقة:
ص 379).
• يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في
"الصارم المسلول"(ص 586):
"وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم - إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشر نفسًا - أو أنهم فسقوا عامتهم،
فهذا لا ريب أيضًا في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع، من الرضا عنهم،
والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين... إلى أن قال: "وكفر
هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام"؛ اهـ.
• وقال ابن فرحون في كتابه "تبصرة الحكام"(2/ 213):
"وأما من شتم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
- أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليًّا أو معاوية أو عمرو بن العاص - فإن قال: كانوا
على ضلال، فقد كفر، وقُتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس، نكل نكالًا شديدًا،
ومن سب أحدًا من آل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب ضربًا وجيعًا، ويشهر، ويحبس طويلًا
حتى تظهر توبته؛ لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ اهـ بتصرف.
• وقد استنبط الإمام مالك من قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ [الفتح: 29] كُفْرَ من يبغضون الصحابة؛
لأن الصحابة يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه الشافعي وغيره"؛ (الصواعق
المحرقة: ص317)، (تفسير ابن كثير: 4/ 204).
النتائج المترتبة على سب الصحابة رضي الله عنهم:
1- الطعن في حكمة الله عز وجل، واتهامه سبحانه أنه اختار لسيد
خلقه وإمام أنبيائه عليهم الصلاة والسلام هؤلاء الأصحاب الفجرة الكفرة الفسقة كما يزعمون!!
2- تكذيب القرآن الكريم الذي نزل بالثناء عليهم والترضي عنهم
في عشرات الآيات.
3- اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بعدم النجاح في تربية أصحابه،
وغرس العقيدة فيهم.
4- القدح في ذات النبي صلى الله عليه وسلم فهو القائل: { المرء
على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل }
5- نزع الثقة في كل ما نقله الصحابة رضي الله عنهم من
"قرآن وسنة" إذ أن الخبر لا يقبل إلا من العدل الضابط.
6- ومن أخطر النتائج إبطال الدين كله بتحطيم الرؤوس وضرب الرموز
التي أخبرتنا به ونقلته إلينا.
فإذا كانت هذه بعض النتائج المترتبة على سب أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فهل يقول عاقل أن سبهم قربة إلى الله تعالى؟! لا ورب الكعبة، لا
يقول ذلك إلا منافق ضال مضل.
وقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: [[ قيل لأم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها: إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أبا
بكر وعمر ..! فقالت: وما تعجبون من هذا ..! أولئك قوم انقطع عنهم العمل، فأحب الله
أن لا يقطع عنهم الأجر ]]
خلاصة ما سبق:
من سب بعض الصحابة سبًّا يطعن في دينه وعدالته، وكان ممن تواترت
النصوص بفضله، فإنه يكفر - على الراجح - لتكذيبه أمرًا متواترًا، أما من لم يكفره العلماء،
فأجمعوا على أنه من أهل الكبائر، ويستحق التعزير والتأديب، ولا يجوز للإمام أن يعفو
عنه، ويزاد في العقوبة على حسب منزلة الصحابة، ولا يكفر عندهم - إلا إذا استحل السب.
• أما سب صحابي سبًّا يطعن في دينه، لم يتواتر النقل بفضله،
فقول جمهور العلماء بعدم كفر من سبه، إلا أن يسبه من حيث الصحبة. يقول الإمام محمد
بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : "وإن كان ممن لم يتواتر النقل في فضله وكماله،
فالظاهر أن سابه فاسق، إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه
يكفر".
• أما سب بعضهم سبًّا لا يطعن في دينهم وعدالتهم؛ كاتهامهم بضعف
الرأي، وضعف الشخصية والغفلة، وحب الدنيا... ونحو ذلك، فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير
والتأديب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في "الصارم
المسلول" (ص 586): "وأما إن سبهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم،
مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد... ونحو ذلك، فهو الذي يستحق
التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء"؛
ا.هـ.