القائمة الرئيسية

الصفحات



نقد في الجاهلية 

https://abhaskom.blogspot.com


مقدمة :-

إنّ النقد هو صنوُ الأدبِ من حيث الاشتقاقُ منه والتسلطُ عليه ومن حيث كونهما فنّين يهتمانِ بدنيا الذوقِ والجمالِ والتأثّرِ والانفعالِ متلازمان ولا بدّ , لا ينفك أحدهما عن الآخر...بل يسيران معاً في تفاعل عام وتكامل تام ...كالتوأمين أو كالرجل وظلّه ...
وإذا كان الأدبُ قد نال حظَه الوافر من الجمع والتحليل والدراسة والتأريخ... فإنّ النقد أقلّ حظّا منه إذْ لم ينل من الدراسة والاهتمام ما ناله الأدب ربّما لأنّ جلّ الدارسين إنّما يعتبرونه تابعا للأدب ولا ينبغي للتابع أن يسوى بالمتبوع ...وربّما لأنّ في النقد ودراسة النقد شيئا من الصناعة العقلية والاجتهادات الفكرية التي لا يستطيعها إلاّ حذاق الأدباء فضلا عن عامة النّاس والقراء...أو لأنّ المشتغلين بالأدب والمتأثرين به والمحبين والمتذوقين له ـ بكلّ بساطة ـ أعظم وأكثر...
وسنحاول من خلال هذه الورقات وضع لبنة ـ حتّى وإن كانت صغيرة لا تقوى على مسايرة أترابها في صرح عالم النقد و الأدب فحسبها المحاولة المخلصة والمشاركة الهادفة ... ـ لبنة في طريق الكشف عن حقيقة النقد وعن خصائصه وميزاته في عصر الجاهلية


النقد الأدبي في العصر الجاهلي :

إنّ الحديث عن النقد الأدبي في عصر الجاهلية يختلف عن غيره من العصور من حيث إنّ أول مباحثه إنّما يتعرض لوجوده أصلاً إذ يزعم بعض النقاد والمؤرخين أنّ العصور العربية الأولى تخلو من النقد والمنصفون منهم إنّما يقصدون به النقد المنهجي بقوانينه التحليلية الموضوعية وقواعده التفكيكية العلمية .
والحقيقة أنّ وجود النقدِ , أصلِ النقد مسألةٌ لا ينبغي الاختلاف فيها فضلا عن نفيها أو الشكّ فيها لأمرين اثنين :
أوّلهما : إنّ وجود الأدب في مثل تلك المرتبة العلية من الإبداع والرقيّ وبذلك الزخم والحجم الكبير دليل كافٍ على وجود نقدٍ ساير هذا الأدب ووقف إلى جانبه يقوّمه ويوجّهه حتى وصل به إلى ما وصل إليه ...
ثانيهما : إنّ الإنسان ناقد بطبعه متذوق بفطرته يطالب دائما بالأحسن والأجمل والأجود والأمثل في شؤون حياته كلّها ولن يشذّ الشعر والأدب عن هذا المبدأ ...إنّ قراءة الشعر وسماعه تقتضي ولا بدّ تذوقَه ونقدَه وخاصة إذا كان ذلك من عارف بالشعر كالشاعر نفسِه أو راويتِه وما أكثرهم في عصر الجاهلية
هذا من جهة نفي وجود أصل النقد أمّا نفي النقد المنهجي العلمي الموضوعي بقوانينه المعروفة وأساليبه ومناهجه المشهورة في عصر الجاهلية فإنّ من يزعم ذلك إنّما يريد تسليط اصطلاحات حادثة على تراث فكري قديم أو إنّما يريد محاكمة فترة زمنية غابرة بأعراف معاصرة وليس هذا من البحث العلمي المنهجي ولا من الدراسة الموضوعية الجادّة في شيء , فالذي ينبغي الإقدام عليه في مثل هذه الدراسات هو البحث في خصائص ومميزات النقد الأدبي في عصر الجاهلية في إطاره الزمني والمكاني بعيدا عن تأثير الاصطلاحات الحادثة والأعراف المعاصرة .
بعد أن فرغنا من الحديث عن وجود أصل النقد في عصر الجاهلية وعن منهجية دراسته لننتقل الآن إلى المرحلة الثانية من هذه الورقات لننتقل إلى دراسة خصائص هذا النقد والبحث في سماته وميزاته .

أوّلا مستويات النقد في البيئة الجاهلية :

إنّ التأمّل العميق و المتأنّي فيما ورد إلينا من نماذجَ للنقد في العصر الجاهلي على قلّتها ـ مقارنة بالأدب ـ يعطينا نظرة إجمالية وفكرة عامة على ما كان عليه النقد الأدبي يومها ... فهو ابتداء يتجلى ويظهر في مستويات ثلاث :

1) المستوى الأوّل النقد الذاتي :

ويقصد به نقد الشاعر لنفسه وتهذيبه لقصيدته كيف لا والشاعر هو أكثر المحتفلين والمهتمين بتجويد شعره حتى يُرضي الجمهور المتلقي للشعر ويستقطب إليه أكبر قدر ممكن من الرواة والمعجبين , ولعل أبرز نموذج يمثّل هذا النوع من النقد هو ما اصطلحوا عليه باسم المدرسة الأوسية أو عبيد الشعر وأشهر رواد هذه الطائفة من الشعراء زهير بن أبي سلمة الذي كان يستغرق في تهذيب شعره وإعادة النظر فيه سنة كاملة قبل أن يخرج على الناس بقصيدته كاملة مكتملة... ولهذا السبب سميت قصائده بالحوليات وكان الأعشى فيما يروى عنه يجوب أحياء العرب وقبائلها ينشد الشعر مستعينا بآلة موسيقية تدعى الصَّنْج وما يفعل ذلك إلاّ احتفالا بشعره ورغبة في جلب المثنين والمعجبين ولابدّ أنّه كان ـ من باب أولى ـ يصنع بشعره ويختار منه ويزيد وينقص فيه ما يحقق له هذا الهدف والمبتغى.   

2) المستوى الثاني النقد الخاص :

وهو النقد الذي نشأ بين طائفة خاصة من المجتمع العربي على رأسهم الشعراء أنفسهم يقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن: «ولد النقد الأدبي مع مولد الشعر ونشأ معه وهذا أمر طبيعي فإنّ الشاعر ناقد بطبعه , يفكر ويقدر ويختار ولهذا كان أقدر من غيره على فهم الصنعة الشعرية وعلى إدراك أسرار القبح أو الجمال . » وأبرز شاهد ها هنا النابغة الذبياني فقد كان شاعرا فحلا وناقدا فذّاً ومثله جلّ الشعراء فمعرفتهم للشعر من جهة وتنافسهم فيما بينهم من جهة أخرى يدفعهم إلى إصدار أحكاما نقدية من شأنها أو توجّه الشعر وتهذّبه ... فممّا يروى عن نابغة بني ذبيان أنّه كانت تضرب له خيمة من أدم حمراء في سوق عكاظ يجتمع إليه فيها شعراء العرب يعرضون عليه شعرهم وممّن عرض عليه شعره فأشاد به وأثنى عليه الأعشى ثمّ دخلت عليه الخنساء فأنشدته : قذى بعينك أو بالعين عوارُ ..... إلى أن قالت: وإنّ صخرا لتأتم الهداة به كأنّه علم في رأسه نارُ وإنّ صخرا لمولانا وسيّدنا وإنّ صخرا إذا نشتو لنحار فقال لولا أنّ أبا بصير أنشدني قبلك لقلت : إنّك أشعر الناس أنتِ والله أشعر من كلّ ذي مثانة , قالت : والله ومن كلّ ذي خصيتيين . فقال حسان : أنا والله أشعر منكَ ومنها . قال : حيث تقول ما ذا؟ قال: لنا الجفنات الغرُّ يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وَلدْنا بني العنقاء وابنيّ محرّقٍ فأكرم بنا خالاَ وأكرم بنا إبنما فقال : إنّك لشاعر لولا أنّك قلّلت عدد جفانك وفخرت بمن ولدتّ ولم تفخر بمن ولدك , وفي رواية أخرى: فقال له : إنّك قلت (الجفنات) فقلّلت العدد ولو قلت (الجفان) لكان أكثر وقلت (يلمعن في الضحى) ولو قلت (يبرقن في الدجى) لكان أبلغ في المديح لأنّ الضيف بالليل أكثر طروقا . وقلت (يقطرن من نجدة دما) فدللت على قلّة القتل ولو قلت (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم وفخرتَ بمن ولدتَ ولم تفخر بمن ولدكَ . فقام حسان منكسراً . اهـ شاهد آخر للنقد الخاص بين الشعراء ما يروى من تحاكم علقمة بن عبدة التميمي والزربقان بن بدر وعمرو بن الأهتم والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي فقال لهم: أما أنت يا زبرقان فإنّ شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل ولا ترك نيّئا فينتفع به . وأما أنت ياعمرو فإنّ شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر فكلّما أعدته فيه نقص , وأما أنت يا مخبّل فإنّك قصرت عن الجاهلية , وأما أنت يا علقمة فإنّ شعرك كمزداة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء . اهـ فهذه النماذج تمثل ظاهرة التنافس بين الشعراء والانتقادات التي كانوا يوجهونها لبعضهم البعض سواء من خلال التحاكم كما هو ظاهر ها هنا أو من خلال التنافس المطلق التي تقتضيه طبيعة البشر وحبهم للتقدّم والتكاثر في كلّ شيء كما قال سبحانه وتعالى {ألهاكم التكاثر} وتقتضيه أيضا طبيعة الحياة العربية البدوية القائمة أساسا على العصبية القبائلية ....هذا من جهة طائفة الشعراء والأدباء وهناك طائفة أخرى تندرج في هذا الإطار هي طائفة الملوك والأمراء والوجهاء فقد كان لهم دورهم البارز في تهذيب الشعر ونقده من خلال أرائهم في جزء عظيم منه هو الجزء المتمثل في المديح الذي كان ينهال عليهم والأشعار التي كانوا هم موضوعها وسببها ـ وما أكثرها ـ فإنّ عطاءهم كان ولا بدّ يختلف من قصيدة لأخرى سواء كان هذا الاختلاف مبنيّ على أسس أدبية فنّية جمالية بحثة أو على أسس موضوعية متعلقة بذات الممدوح وهذا الاختلاف في العطاء يغلب على الظنّ أنّه كان معللا أو على الأقلّ معروف العلّة ممّا يستدعي الشاعر إلى تهذيب قصيدته وفق هذه التعليلات التي تجلب له الكسب والعطاء.

3) المستوى الثالث النقد العام :

والمقصود به نقد جماهير العرب وعامتهم. فالمعروف عن العرب أنّهم أهل البلاغة والفصاحة والبيان كانوا يتذوقون الأدب بفطرتهم وسجيتهم وكانوا ولوعين شغوفين بالشعر خاصة ... ولا بدّ أنّ هذه العامة كان لها ذوق خاص واتجاه محدّد في الشعر وقوالب معيّنة تنجذب نحوها أكثر من غيرها ...ومن شأن هذا الذوق أن يقيّد الشعراء والأدباء فينشدوا فيه وفق ما تحبه وتطلبه الجماهير وهذا ما يدفعهم لتهذيب شعرهم بما يساير هذا الذوق العام يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف في حديثه عن عامة العرب الذين كانوا يستمعون لشعر الأعشى الذي كما تقدم ذكره يطوف بأحياء العرب ينشد شعره لعامتهم ما نصّه : «... ولا نرتاب في أنّ من كانوا يستمعون إليه كانوا يستعيدون ـ في حضرته ـ ما ينشده مراراً , وأنهم كانوا يطلبون منه المزيد , ولا نرتاب أيضا في أنّهم كانوا ـ إذا رحل ـ يتحدثون عنه وعن شعره , فيتعصب بعضهم له ويتعصب بعضهم عليه مؤثرا شعراء قبيلته . وكذلك كان شأنهم في الأسواق حين يستمعون إلى ما ينشد الشعراء , فيظهر فريق منهم إعجابا , ويظهر فريق سخرية واستخفافا . ولعل هذه هي أول صورة لتقدير الجماهير للأدب وتقويمه , وبروها في العصر الجاهلي يدلّ على رقي الذوق حينئذ , وقد اندفع الشاعر يحاول إرضاء هذا الذوق وأن يقع منه موقع استحسان .... »

ثانيا مستويات النقد وميادينه في النصّ الأدبي الجاهلي :

إنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي قد طال جميع مستويات النّص الأدبي وأوشك أن يتعرّض لجميع جزئياته وموضوعاته لولا بدائية الحياة الفكرية وبعدها عن النظرة التحليلية للمظاهر والأشياء...التي منعت التعمق والتوسّع في نقد النصوص الأدبية
فنحن نرى المحكَّمين والنقادَ يتعرضون للّفظة المفردة التي لم تقع في مكانها وللمعنى المبتذل أو الناقص أو غير المناسب للمقام كما يتعرضون لشكل النّص ولمضمونه ويتعرضون لصاحب النصّ ذاته ... وغيرها من المجالات التي سنذكرها مصحوبة بنماذج نقدية وشواهد نصية ...

1) نقد الألفاظ :

فمن ذلك ما يروى أنّ المسيب بن علسٍ مرّ بمجلسِ بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه , فأنشدهم :
ألا أنعم صباحا أيّها الربع وأسلم محييك عن شحط وإن لم تكلم
فلمّا بلغ : وقد أتناسى الهمّ عند ادّكاره بناج عليه الصيعرية مكدم
قال طرفة ـ وهو صبي يلعب مع الصبيان ـ : استنوق الجمل . لأنّ ابن علسٍ وصف جمله بالصيعرية وهي سمة في عنق الناقة لا البعير . ومن أمثلته كذلك نقد النابغة الذبياني لحسان بن ثابت رضي الله عنه حين استعمل لفظة الجمع البسيط دون منتهى الجموع أو جمع الجموع للدلالة على الكثرة ومن أمثلته البارزة كذلك : ما يروى أنّ الأعشى أنشد قيس بن معديكرب أحد أشراف اليمن شعرا في مدحه جاء فيه :
ونبّئت قيسا ولم أبله وقد زعموا ساد أهل اليمن
فعابه قيس لما شاب معناه من الشكّ في ملك أهل اليمن لأنّ استعمال لفظة الزعم تفيد في أصل وضعها والشائع في استعمالها الشكّ والزعم كما يقولون أخو الكذب أو مطية الكذب حتى وإن كانت العرب تستعمل هذه اللفظة ونحوها بمعنى اليقين كذلك إذا وُجد في السياق ما ينحو بها نحو هذا المعنى .... ولم ينفع الأعشى محاولة إصلاح بيته حين قال :
ونبئت قيسا ولم آته على نأيه ساد أهل اليمن
فالعربي كان ينتقد النصّ الأدبي من جهة ألفاظه ومفرداته انطلاقا من سجيّته اللغوية وفطرته الكلامية فهو عارف بلغته مدرك لاستعمالات ودلالات ألفاظها حقّ المعرفة وتمام الإدراك ... يقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن إبراهيم : «...ولقد كان العربي على صلة وثيقة بأسرار لغته , يدرك بفطرته الدلالة الوضعية للكلمات فإذا ابتعد الشاعر عن تلك الدلالة , واستعمل الكلمة في غير موضعها , دون أن يلمح علاقة بين المعنى الأصلي للكلمة والمعنى الذي نقلها إليه أحسّ بذلك إحساسا مباشرا وعبّر عن ذلك الإحساس بما تجود به قريحته .»
ولقد كان هذا النوع من النقد قليل لقلة الأخطاء اللغوية أو قل لقلّة العدول اللغوي غير المناسب يقول الدكتور عبد الرحمن إبراهيم :«...والظاهر أنّ هذا اللون من النقد كان قليلا نادرا لأنّ العربي كان شديد الحساسية بلغته ودقيق الإصابة فيها يجري في استعمال الكلمات على طبعه وسليقته فإذا ظهر شيء يخالف الطبع والسليقة فطنت إليه الأذواق الناشئة وعافته وذلك نادر . ولعل هذا هو الذي يعلل لنا نقص النصوص التي نقلها الرواة في هذا الشأن . »

2) نقد المعاني :

المقصود بالمعاني دلالات الألفاظ سواء على ما وضعت له أصالة (الحقيقة) أو نقلا (المجازات) ولكي تكون سليمة في حسّ الناقد العربي البسيط ينبغي أن تكون المعاني مطابقة لذاته لأحاسيسه , معبرة عن قيمه ومثله , عاكسة لواقعه وبيئته وللطّبيعة من حوله ...فإن كانت كذلك فهي جميلة مستحسنة في ذوقه وأحكامه وإن خالفت معهوده فهي مستهجنة قبيحة يسارع إلى انتقادها بأسلوبه البسيط المتماشي مع طبيعة بيئته ... ومن أمثلة هذا النوع من النقد انتقاد العرب للمهلل بن ربيعة في بيته الذي نعتوه بأكذب بيت قالته العرب حيث يقول :
فلولا الريح أسمع أهل حجر صليل البيض تقرع بالذكور
لأنّه من أهل الشام كان منزله على شاطئ الفرات فكيف يسمع قبيلة حجر وهي في اليمامة وبينهما مسافات طوال ... فالنقد هنا بسبب مبالغته في المعنى مبالغة خالفت معهود العرب وإلاّ فإنّ أصل المبالغة كانت مطلوبة ومقصودة في شعر العرب وخاصة في مجال المدح والفخر ولهذا نرى النابغة في نموذجنا الثاني كيف ينتقد حسان بن ثابت رضي الله عنه لأنّه لم يبالغ في معان يقتضي المقام المبالغة فيه (فالجفان) أبلغ من (الجفنات) و(يجرين دما) أبلغ من (يقطرن) هذا من حيث قصد المبالغة وكذلك انتقده من جهة مخالفة معهود العرب وعرفهم فالعادة جرت عندهم على الافتخار بالآباء لا بالأبناء فكان الأولى أن يقول (أكرم بنا أبا) لا (أكرم بنا ابنما) ...والضيوف إنّما يطرقن الديار في الليل لا في الضحى فكان ينبغي له أن يقول (يبرقن بالدجى) بدل (يلمعن في الضحى).

3) نقد الشكل :

المقصود بشكل النّص الأدبي ما يتعلق بصورته من حيث عمودية الشعر وأوزانه وقوافيه وتركيبة قصائده من جهة مقدماتها وأغراضها ونحو ذلك ...فمن النماذج والشواهد على اشتغال النقد الجاهلي وتعرّضه لشكل المنتوج الأدبي ما يروى عن النابغة الذبياني أنّه كان يّقوي في شعره ولا يتفطّن لذلك كقوله :
أمن آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا وبذلك خبّرنا الغرابُ الأسودُ
فلمّا قدم على أهل المدينة أرادوا أن يشعروه بلحنه فعمدوا إلى جارية وطلبوا منها ترتيل هذه الأبيات أي إنشادها في استمرارية وتتابع فأحسّ النابغة بنشاز في أبياته وتفطّن لإقوائه فأصلحه بقوله :
وبذلك تنعابُ الغرابِ الأسودِ
ولهذا السبب كان النابغة يقول : قدمت الحجاز و في شعري صنعة ورحلتُ عنها وأنا أشعر النّاس
ومثله إقواء بشر بن أبي خازم , يقول أبو عمرو بن العلاء : فحلان من الشعراء كان يقويان النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم فأمّا النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره فلم يعد إلى إقواء , وأما بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة : إنّك تقوي قال وما الإقواء ؟ قال قولك :
ألم تر أنّ طول الدهر يسلي وينسي مثل ما نسيت جزامُ
ثمّ قلت :
وكانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشامِي
فقال : تبيّنتُ خطئي ولستُ بعائد . اهـ
ولو أردنا شاهدا قويا على اهتمام نقاد العصر الجاهلي بشكل القصيدة من حيث الوزن والقافية والروي فلنتأمل في حكومة أمّ جندب المشهورة حيث تقول الرواية كما ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء أنّها طلبت من الشاعرين المتنافسين والمتبارزين امرئ القيس وعلقمة الفحل أن يقولا قصيدتين في موضوع واحد على رويّ واحد وقافية واحدة ... وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الشكل كان له دور في المفاضلة بين الشعراء وفي نقد أشعارهم .

ثالثا : بعض المظاهر النقدية في الجاهلي :

1) ظاهرة المفاضلة بين الشعراء وتقديم بعضهم على بعض :

وأسباب هذه الظاهرة كثيرة جدّا لعلّ أهمّها العصبية والتنافس القبلي وكثرة الشعراء ووفرتهم في البيئة العربية الجاهلية إضافة إلى أنفة الإنسان الجاهلي وحبّه للتفاخر والتقدّم على غيره ...
يقول الأستاذ شوقي ضيف واصفا هذه الظاهرة :«ويظهر أنّ الشعراء حينئذ كانوا يتفاخرون بشعرهم ويتنافرون فيه كما يتنافر الأشراف في سؤددهم فكانوا يعرضونه على المحكّمين ليقضوا بينهم...»
و يعتبر الأستاذ قصيّ الحسين هذه الظاهرة إحدى أبرز أوجه النقد في العصر الجاهلي حيث يقول: «...ولعل الحكم على الشعر من جهة والتنويه بمرتبة الشاعر ومكانته بين الشعراء من جهة أخرى , كانا الميدانين اللذين جال فيهما النقد جولات خفيفة في العصر الجاهلي»
ومن أمثلة ونماذج هذه الظاهرة تقديم النابغة الذبياني للأعشى على غيره من الشعراء ثمّ ثنّى بالخنساء بينما ناقد آخر هو عمرو بن الحارث الغساني قدّم حسان بن ثابت على النابغة نفسه وعلى علقمة .

2) ظاهرة التهذيب والتثقيف :

وقد تقدم الحديث عن هذه الظاهرة في مبحث بيان أوّل مستويات النقد في العصر الجاهلي الذي كان متمثلا في نقد الشاعر لنفسه قبل أن ينتقده غيره
والمقصود بها ما يقوم به الشاعر من تهذيب لشعره وتثقيفه له بحثا عن الجودة والكمال لإرضاء نفسه أوّلا فيرتاح لعمله ولإرضاء العامة والتماشي مع أذواقهم واختياراتهم ...
وعناية الشاعر بشعره واهتمامه به بالتصحيح والتعديل والتثقيف هو منحىً واتجاه نقدي ومدرسة شعرية بدأت في العصر الجاهلي ثمّ تتابعت خلال العصور الأدبية المتلاحقة ...
ولعل أشهر من يمثّل هذا الاتجاه هو الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمة الذي كان يستغرق تهذيبه للقصيدة حولا كاملا فسميت لأجل ذلك بالحوليات ينظمها في أربعة أشهر وينقحها في أربعة أخرى ثم يعرضها على الخاصة في أربع ليكتمل بذلك الحول قبل أن يعرضها على عموم النّاس .
وقد سار على هذا النهج ابنه كعب وراويته الحطيئة وفي تهذيب الشعر وتنقيحه يقول كعب بن زهير مشيدا بفضله وفضل الحطيئة وحاجة الشاعر إلى الجهد والخبرة والتهذيب والتنقيح ليبلغ المرتقى :      ومن للقوافي شأنها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
يقومـها حـتى تلـين متونها فيقـصر عنـها كلّ ما يتمثل
وفي رواية : شانها من يحركها , فوز بمعنى مات وجرول هو اسم الحطيئة جرول بن أوس بن مالك ، ويقول راوية زهير وحامل منهجه التهذيبي الحطيئة في بيان صعوبة الشعر في حقّ من لا يحسن قرضه بالتثقيف والتهذيب  .
الشعرُ صعبٌ وطويل سلّمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه يريـد أن يعـربه فيعجمه

3) ظاهرة الرواية :

يقول الأستاذ شوقي ضيف : «...فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيّعة لنشره وذيوعه , وكانت هناك طبقة تحترفها احترافا هي طبقة الشعراء أنفسهم , فقد كان من يريد نظم الشعر وصوغه يلزم شاعرا يروي عنه شعره, وما يزال يروي له ولغيره حتى ينفتق لسانه , ويسيل عليه ينبوع الشعر والفنّ ... »
ومن أشهر هؤلاء الرواة زهير بن أبي سلمة كان راوية لعمه أوس بن حجر
وكان كعب بن زهير راوية لأبيه
وقبلهم كان امرئ القيس راوية لخاله المهلهل
الأعشى كان راوية لخاله المسيّب بن علس
أبو ذؤيب الهذلي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي
طرفة كان راوية لعمّه المرقش الأصغر وكان هو راوية لعمه المرقش الأكبر
كما روى طرفة عن خاله المتلمِّس من بني يشكر حيث تربى طرفة
وقد كان لظاهرة الرواية دور كبير وأثر عظيم في النقد الأدبي يمكننا التماسه من خلال النقاط التالية :
*أ. تعليم صناعة الشعر تقتضي ولا بدّ تحديد بعض معالم الجودة والرداءة يأخذها التلميذ الراوية عن شيخه الشاعر الفحل يقول الأستاذ شوقي ضيف في هذا المضمار : : «... فالشاعر المشهور يلزمه تلاميذ يروون عنه شعره وهم ليسوا دائما من قبيلته ولا من أسرته , فقد يرحل إليه شباب من قبائل أخرى ليتعلموا الشعر على يديه .
ولا توضّح لنا كتب الأدب الطريقة التي كان يتبعها هؤلاء الأساتذة المعلمون في تعليم الشبان الشعر وتلقينهم مبادئه ووسائله سوى ما تُجمله من كلمة "الرواية" وهي كلمة غامضة . تدل طبيعة الأشياء على أنهم لم يكونوا يكتفون بإنشادهم أشعارهم , بل كانوا يضيفون إلى ذلك ملاحظات , يعلمونهم بها كيف يحسنون صنع الشعر وكيف يميزون جيّده من رديئه , وإنما نزعم هذا الزعم لأنه وصلتنا عن معاصريهم بعض آراء وأحكام نقدية وهم بها أولى وأجدر لطبيعة قيامهم على صناعتهم وتوفرهم على تعليمها للناشئة من الشعراء . »
*ب. الانتصار لشعرائهم على حساب غيرهم من الشعراء سواء كان انتصارهم معلّلا أو انتصارا ذوقيا فإنّه في كلا الحالتين حكما نقديا

4) ظاهرة المدارس الشعرية :

المقصود بالمدرسة الشعرية في العصر الجاهلي مجموعة من الشعراء يشتركون معا في بعض الميزات والخصائص الفنية أو اللغوية أو المنهجية التي تميّز شعرهم وأدبهم ...
ولعل من أبرز هذه المدارس ؛ مدرسة عبيد الشعر وهم الذين يهتمون بتنقيح وتهذيب أشعارهم ـ كما تقدم ـ زعيم هذه المدرسة ورأسها كما ذكر صاحب الأغاني هو أوس بن حجر وعنه أخذ زهير بن أبي سلمة وعنه ابنه كعب وراويته الحطيئة وعن الحطيئة هُدْبَة بن خشْرم العُذري وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة وعن جميل أخذ كثيَّر صاحب عزَّة
يقول الدكتور شوقي ضيف: «... وهو نص بالغ الخطورة إذ نطلع منه على نشوء فكرة المدارس الشعرية عند الجاهليين ...»
ويقول أيضا : «...نحن إذا بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل في طبقات أو حلقات وكلّ حلقة تأخذ عن سابقتها وتسلم إلى لا حقتها ومن أهمّ ما يلاحظ في هذه المدرسة أنّ شعراءها أو رواتها كانوا من قبائل مختلفة في شرقي الجزيرة وغربها ...»
وتقابل هذه المدرسة بمرتجلي الشعر ومن أشهرهم النابغة الذبياني وحسان بن ثابت
وأحيانا شعراء القبيلة الواحدة يكونون مدرسة متميّزة لكثرة ما يأخذون عن بعضهم البعض ويتتلمذون على بعضهم البعض .كما يقول شوقي ضيف: «...ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إنّ شعراء القبيلة الواحدة كان يروي خلفهم شعر سلفهم ونصّ القدماء على ذلك في غير شاعر.


Text Box: المملكة العربية السعودية 
وزارة التعليم 
جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز 
كلية التربية 
 

هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع