القائمة الرئيسية

الصفحات

مشاكل النحو والنحويين في كتاب ابن عقيل


مشاكل النحو والنحويين في كتاب ابن عقيل


انتهج النحويون العرب القدامى منهجاً محكماً ، في تأسيس دراساتهم النحوية، اتّبعه خالفوهم ، و ساروا على هديه ، و تقيدوا به ، و لم يحيدوا عنه .
و لا مناص لكل باحث في النحو العربي من دراسة ذلك المنهج ، و الوقوف على أسسه و أصوله ؛ لأن كلّ قضايا النحو العربي ، و ما تفرع منها من مسائل و مشكلات ،يعود في حقيقته إلى ذلك المنهج.
و هذا المنهج على إحكامه ، و دقته ، و إخلاص العلماء فيه ، لم يخل من ثغرات في بنائه ،و لم يسلم من هفوات و شوائب شوهت جماله، و طمست شيئاً من وضوحه .
ولهذا فإن دراسة هذا المنهج و نقده نقدا علميا ، تعدّ نقطة البدء في كل بحث جاد في النحو العربي ، و تشخيص مشكلاته ، و تحديدها ، و من ثم الإسهام في إيجاد الحلول لها .
من أجل ذلك كله جاء هذا البحث محاولة لوضع المنهج النحوي بالميزان؛ ليبين ما عليه من مآخذ و سلبيات، و يوضح ما فيه من إيجابيات.
وهو على كل حال ليس سوى محاولة لنقد المنهج النحوي نقداً علمياً , لعل ذلك يسهم في بناء فكر نحوي جديد.
إن التراث النحوي تراث غني و عريق، تعاقبت على صنعه و بنائه أجيال من النحويين و اللغويين الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم لهذا التراث ، حتى توطد بناؤه، و شمخ صرحه عالياً ، فقد أشادوا بنيانه على أسس ثابتة متينة لا تتزعزع ؛ لهذا صمد طويلاً أمام كثير من الهزات و الزلازل التي تعرض لها قديماً و حديثاً، فذهبت تلك الهزات ، و هاتيك الزلازل ، و ظل هذا الصرح ثابتا ، راسخة جذوره ، غضة فروعه، تؤتي أكلها كل حين .

يقول ابن عقيل في شرحه : " مذهب جمهور العرب أنّه إذا أسند الفعل إلى ظاهرٍ – مثنى أو مجموع – وجب تجريده من علامةٍ تدل على التثنية أو الجمع ، فيكون كحاله إذا أسند إلى مفرد ".
غير أنّ واقع لغة العرب يخالف ذلك ، فهناك شواهد شعرية عديدة ألحقت فيها علامة التثنية أو الجمع للفعل المسند إلى ظاهرٍ - مثنى أو مجموع  من ذلك قول الشاعر:
يَلُومُونَنِي في اشْتِراءِ النَّخيـ          ـ لِ أَهْلِي ، فَكلُّهم يَعْذِلُ
وقول عبد الله بن قيس الرقيات :
تَوَلَّى قِتَالَ المارِقِينَ بِنَفْسِهِ          وَ قَدْ أَسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ و حَمِيمُ
و قول العتبي :
رَأَيْنَ الغَوانِي الشّيْبَ لاحَ بِعَارِضِي         فَأَعْرَضَ عَنيّ بالخُدودِ النَواضِرِ

كما أن هناك آيتين كريمتين ، جاء في كل منهما الفعل متصلاً به علامة تدل على الجمع مع أن الفاعل اسم ظاهر ، الأولى قوله تعالى : " وَ حَسِبُوا ألاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيهِم ثُمَّ عَمُوا  وَ صَمَُوا كَثِيرٌ مِنهُمْ و اللهُ بَصيرٌ بما يَعْمَلُون "  و الثانية قوله تعالى : " ... وَأسَرُّوا النَّجْوَى الذين ظَلَمُوا "
لكن أغلب النحويين لم يسلموا بأن هذه لغة معروفة لدى قبيل من العرب    و هم أزد شنوءة ، بل عدوها شاذة ، و نزّهوا القرآن بزعمهم من أن يُحمل على هذه اللغة ، فقال أبو حيان:" و قيل هذه لغة شاذة " وردّ على من حمل هاتين الآيتين على هذه اللغة قائلاً: " و لا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة " ، و قال ابن هشام :" و حملها على غير هذه اللغة أولى لضعفها ".
و لا أدري لم هي ضعيفة ؟ مع أنّ لها وجهاً من القياس ؛ وذلك أن العرب أجمعوا على أن يلحقوا الفعل المسند إلى المؤنث تاءً دليلاً على أن فاعل الفعل مؤنث،  و كذلك في هذه اللغة لحقت  الفعل المسند إلى المثنى أو الجمع علامة ، لتدل على أن الفاعل مثنى أو جمع . و كان الأجدر بالنحويين أن يعترفوا بهذه اللغة، و ينصوا على أنها قليلة لا أن يلجؤوا إلى التأويلات و التخريجات كما نجده في تأويلاتهم الكثيرة لهاتين الآيتين.
     ومع أن هناك شواهد غير هذه، إلا أن النحويين القدامى أصروا على قاعدتهم ، و نبذوا هذه اللغة بلغة " أكلوني البراغيث
و من ذلك أنهم قالوا إنّ الفعلين " يَدَعُ، و يَذَرُ " لا ماضيَ لهما، و لا مصدر  ولا اسم فاعل أو مفعول ،و عدّوا ما سمع من ذلك شذوذاً أو ضرورة.   يقول  ابن جني: " فإن كان الشيء شاذاً في السماع ، مطرداً في القياس ، تحاميت ما تحامت العرب من ذلك ، و جريت على نظيره على الواجب في أمثاله، من ذلك امتناعك من : وَذَرَ ، و وَدَعَ ، لأنهم لم يقولوهما "
و يقول الجوهري في الصحاح : " و قولهم : دَعْ ذا ، أي اتركه ، و أصله   وَدَع ، يـَدَع َ، و قد أُميت ماضيه ، لا يقال : وَدَعـَهُ ، و إنّما يقال تـَرَكـَهَ ولا وادع ، و لكن تارك "
و مثل ذلك جاء في تاج العروس للزبيدي ، و يقول ابن منظور في اللسان : " ووَدَعه يـَدَعُه : تـَرَكـَه ، و هي شاذة ، و كلام العرب : دَعـْنـَي ،    و ذَرْنـِي ، و يـَدَعُ و يذر ، و لا يقولون وَدَعـْتُك و لا وذَرْتُـك ، استغنوا عنهما بتركتك ،  و المصدر فيهما( تركاً ) ، و لا يقال : وَدْعاً ، و لا وَذْراً ، و لا وادع".
بل إنّ المبرد حاول أن يعلل ذلك صرفياً ، جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي :" قال المبرد : لا يكادون يقولون : وَدَعَ و لا وَذَرَ ؛ لضعف الواو إذا قدمت  و استغنوا بترك ". و هذا تعليل غريب من المبرد ، فكيف لم تضعف الواو في مثل : وعد ، و وصل ، و أمثالهما كثير ؟!
غير أن المستقري كلام العرب يجد أن لهذين الفعلين و مصدرهما و اسم فاعلهما استخداماً كثيرا في كلامهم ، و لم يُماتا كما زعم أولئك النحويون           و اللغويون بل إنّ الآية الكريمة: " ما وَدَّعكَ رَبُّكَ و ما قَلَى "  قُرأت بالتخفيف : " ما وَدَعك " أي ما تركك
      حدَّ النحويون الفاعل بأنّه : (( الاسم المسند إليه فعلٌ ، علـى طريقة فَعَلَ أو شِبهه ، وحكمه الرفع )) ، هذا ما ذكروه في باب الفاعل . وفي باب أقسام الكلمة ذكروا أنَّ من علامات الفعل أن يقبل تاء الفاعل، قال ابن مالك في ألفيته :

بِتا ( فَعَلْت ) و( أتَتْ ) ويا افْعَلي        ونونِ ( اقْبِلَنَّ ) فِعْلٌ ينجلـي

        قال ابن عقيل شارحاً هذا البيت : (( ذكر المصنف أنَّ الفعل يمتاز عن الاسم والحرف بتاء (فَعَلْت)، والمراد بها تاء الفاعل ، وهي المضمومة للمتكلم، نحو: فعلتُ، والمفتوحة للمخاطب، نحو: تباركتَ، والمكسورة للمخاطبة، نحو: فعلتِ ... )).
        وبهذا حدُّوا الفاعل بأن يصحّ إسناد الفعل إليه ، في حين أنّهم ذكروا أنّ مِنْ علامات الفعل أن يقبل تاء الفاعل كما تقدم ، أي أن يصحّ إسناده إليها ، وهذا ما يقتضي الدور ؛ (( حيث عرّف الفعل هنا بقبول تاء الفاعل ، وعرَّف الفاعل في بابه بأنّه الاسم المسند إليه فعل )).
         وهكذا رأينا كيف يمكن أن يدخل الدور في حدّ الفاعل . فلننظر الآن ماذا يقول النحويون في محاولتهم تخليص هذا الحد من ذلكم الدور ودفعه عنه ؟
        لقد التمس بعضهم تفسيراً آخر لمعنى الفاعل في قول ابن مالك (بتا فعلت) غير معنى الفاعل الاصطلاحي الذي وقفنا عليه قبل قليل ! ذلك من أجل الابتعاد بحدِّ الفاعل عن الوقوع في ظاهرة الدور ، ولهذا قالوا إنَّ المقصود بتاء الفاعل ههنا (( مَنْ أُسنِدَ إليه فعل على جهة القيام به ، أو الوقوع منه ثبوتاً أو نفياً لا الفاعل اللغوي ، وهو من أوجد الفعل ؛ لئلا تخرج تاء نحو: مِتّ ، وما ضربْت ، ولا الاصطلاحي ؛ لئلا تخرج تاء كان وأخواتها ، ويلزم الدور بأخذه في تعريف الفعل ، ثم أخذ الفعل في تعريفه بأنه الاسم المسند إليه فعل ))

هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع