مشاكل النحو والنحويين في كتاب ابن عقيل
انتهج النحويون العرب القدامى منهجاً
محكماً ، في تأسيس دراساتهم النحوية، اتّبعه خالفوهم ، و ساروا على هديه ، و
تقيدوا به ، و لم يحيدوا عنه .
و لا مناص لكل باحث في النحو العربي من دراسة ذلك المنهج ، و الوقوف على أسسه و أصوله ؛ لأن كلّ قضايا النحو العربي ، و ما تفرع منها من مسائل و مشكلات ،يعود في حقيقته إلى ذلك المنهج.
و هذا المنهج على إحكامه ، و دقته ، و إخلاص العلماء فيه ، لم يخل من ثغرات في بنائه ،و لم يسلم من هفوات و شوائب شوهت جماله، و طمست شيئاً من وضوحه .
ولهذا فإن دراسة هذا المنهج و نقده نقدا علميا ، تعدّ نقطة البدء في كل بحث جاد في النحو العربي ، و تشخيص مشكلاته ، و تحديدها ، و من ثم الإسهام في إيجاد الحلول لها .
من أجل ذلك كله جاء هذا البحث محاولة لوضع المنهج النحوي بالميزان؛ ليبين ما عليه من مآخذ و سلبيات، و يوضح ما فيه من إيجابيات.
وهو على كل حال ليس سوى محاولة لنقد المنهج النحوي نقداً علمياً , لعل ذلك يسهم في بناء فكر نحوي جديد.
و لا مناص لكل باحث في النحو العربي من دراسة ذلك المنهج ، و الوقوف على أسسه و أصوله ؛ لأن كلّ قضايا النحو العربي ، و ما تفرع منها من مسائل و مشكلات ،يعود في حقيقته إلى ذلك المنهج.
و هذا المنهج على إحكامه ، و دقته ، و إخلاص العلماء فيه ، لم يخل من ثغرات في بنائه ،و لم يسلم من هفوات و شوائب شوهت جماله، و طمست شيئاً من وضوحه .
ولهذا فإن دراسة هذا المنهج و نقده نقدا علميا ، تعدّ نقطة البدء في كل بحث جاد في النحو العربي ، و تشخيص مشكلاته ، و تحديدها ، و من ثم الإسهام في إيجاد الحلول لها .
من أجل ذلك كله جاء هذا البحث محاولة لوضع المنهج النحوي بالميزان؛ ليبين ما عليه من مآخذ و سلبيات، و يوضح ما فيه من إيجابيات.
وهو على كل حال ليس سوى محاولة لنقد المنهج النحوي نقداً علمياً , لعل ذلك يسهم في بناء فكر نحوي جديد.
إن التراث النحوي تراث غني و عريق، تعاقبت
على صنعه و بنائه أجيال من النحويين و اللغويين الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم لهذا
التراث ، حتى توطد بناؤه، و شمخ صرحه عالياً ، فقد أشادوا بنيانه على أسس ثابتة
متينة لا تتزعزع ؛ لهذا صمد طويلاً أمام كثير من الهزات و الزلازل التي تعرض لها
قديماً و حديثاً، فذهبت تلك الهزات ، و هاتيك الزلازل ، و ظل هذا الصرح ثابتا ،
راسخة جذوره ، غضة فروعه، تؤتي أكلها كل حين
.
يقول ابن عقيل في شرحه : " مذهب
جمهور العرب أنّه إذا أسند الفعل إلى ظاهرٍ – مثنى أو مجموع – وجب تجريده من
علامةٍ تدل على التثنية أو الجمع ، فيكون كحاله إذا أسند إلى مفرد ".
غير أنّ واقع لغة العرب يخالف ذلك ، فهناك
شواهد شعرية عديدة ألحقت فيها علامة التثنية أو الجمع للفعل المسند إلى ظاهرٍ -
مثنى أو مجموع من ذلك قول الشاعر:
يَلُومُونَنِي في اشْتِراءِ النَّخيـ ـ لِ أَهْلِي ، فَكلُّهم يَعْذِلُ
وقول عبد الله بن قيس الرقيات :
تَوَلَّى قِتَالَ المارِقِينَ
بِنَفْسِهِ وَ قَدْ أَسْلَمَاهُ
مُبْعَدٌ و حَمِيمُ
و قول العتبي :
رَأَيْنَ الغَوانِي الشّيْبَ لاحَ
بِعَارِضِي فَأَعْرَضَ عَنيّ
بالخُدودِ النَواضِرِ
كما أن هناك آيتين كريمتين ، جاء في كل
منهما الفعل متصلاً به علامة تدل على الجمع مع أن الفاعل اسم ظاهر ، الأولى قوله
تعالى : " وَ حَسِبُوا ألاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ
تابَ اللهُ عَلَيهِم ثُمَّ عَمُوا وَ
صَمَُوا كَثِيرٌ مِنهُمْ و اللهُ بَصيرٌ بما يَعْمَلُون " و الثانية قوله تعالى : " ... وَأسَرُّوا
النَّجْوَى الذين ظَلَمُوا "
لكن أغلب النحويين لم يسلموا بأن هذه لغة
معروفة لدى قبيل من العرب و هم أزد
شنوءة ، بل عدوها شاذة ، و نزّهوا القرآن بزعمهم من أن يُحمل على هذه اللغة ، فقال
أبو حيان:" و قيل هذه لغة شاذة " وردّ على من حمل هاتين الآيتين على هذه
اللغة قائلاً: " و لا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة " ، و قال ابن هشام
:" و حملها على غير هذه اللغة أولى لضعفها ".
و لا أدري لم هي ضعيفة ؟ مع أنّ لها وجهاً
من القياس ؛ وذلك أن العرب أجمعوا على أن يلحقوا الفعل المسند إلى المؤنث تاءً
دليلاً على أن فاعل الفعل مؤنث، و كذلك في
هذه اللغة لحقت الفعل المسند إلى المثنى
أو الجمع علامة ، لتدل على أن الفاعل مثنى أو جمع . و كان الأجدر بالنحويين أن
يعترفوا بهذه اللغة، و ينصوا على أنها قليلة لا أن يلجؤوا إلى التأويلات و
التخريجات كما نجده في تأويلاتهم الكثيرة لهاتين الآيتين.
ومع أن هناك شواهد غير هذه، إلا أن النحويين القدامى أصروا على قاعدتهم ، و
نبذوا هذه اللغة بلغة " أكلوني البراغيث
و من ذلك أنهم قالوا إنّ الفعلين "
يَدَعُ، و يَذَرُ " لا ماضيَ لهما، و لا مصدر ولا اسم فاعل أو مفعول ،و عدّوا ما سمع من ذلك
شذوذاً أو ضرورة. يقول ابن جني: " فإن كان الشيء شاذاً في السماع
، مطرداً في القياس ، تحاميت ما تحامت العرب من ذلك ، و جريت على نظيره على الواجب
في أمثاله، من ذلك امتناعك من : وَذَرَ ، و وَدَعَ ، لأنهم لم يقولوهما "
و يقول الجوهري في الصحاح : " و
قولهم : دَعْ ذا ، أي اتركه ، و أصله
وَدَع ، يـَدَع َ، و قد أُميت ماضيه ، لا يقال : وَدَعـَهُ ، و إنّما يقال
تـَرَكـَهَ ولا وادع ، و لكن تارك "
و مثل ذلك جاء في تاج العروس للزبيدي ، و
يقول ابن منظور في اللسان : " ووَدَعه يـَدَعُه : تـَرَكـَه ، و هي شاذة ، و
كلام العرب : دَعـْنـَي ، و ذَرْنـِي ،
و يـَدَعُ و يذر ، و لا يقولون وَدَعـْتُك و لا وذَرْتُـك ، استغنوا عنهما بتركتك
، و المصدر فيهما( تركاً ) ، و لا يقال :
وَدْعاً ، و لا وَذْراً ، و لا وادع".
بل إنّ المبرد حاول أن يعلل ذلك صرفياً ،
جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي :" قال المبرد : لا يكادون يقولون :
وَدَعَ و لا وَذَرَ ؛ لضعف الواو إذا قدمت
و استغنوا بترك ". و هذا تعليل غريب من المبرد ، فكيف لم تضعف الواو
في مثل : وعد ، و وصل ، و أمثالهما كثير ؟!
غير أن المستقري كلام العرب يجد أن لهذين
الفعلين و مصدرهما و اسم فاعلهما استخداماً كثيرا في كلامهم ، و لم يُماتا كما زعم
أولئك النحويون و اللغويون بل
إنّ الآية الكريمة: " ما وَدَّعكَ رَبُّكَ و ما قَلَى " قُرأت بالتخفيف : " ما وَدَعك " أي
ما تركك
حدَّ النحويون الفاعل بأنّه : (( الاسم المسند إليه فعلٌ ، علـى طريقة
فَعَلَ أو شِبهه ، وحكمه الرفع )) ، هذا ما ذكروه في باب الفاعل . وفي باب أقسام
الكلمة ذكروا أنَّ من علامات الفعل أن يقبل تاء الفاعل، قال ابن مالك في ألفيته :
بِتا ( فَعَلْت ) و( أتَتْ ) ويا
افْعَلي ونونِ ( اقْبِلَنَّ )
فِعْلٌ ينجلـي
قال ابن عقيل شارحاً هذا البيت : (( ذكر
المصنف أنَّ الفعل يمتاز عن الاسم والحرف بتاء (فَعَلْت)، والمراد بها تاء الفاعل
، وهي المضمومة للمتكلم، نحو: فعلتُ، والمفتوحة للمخاطب، نحو: تباركتَ، والمكسورة
للمخاطبة، نحو: فعلتِ ... )).
وبهذا حدُّوا الفاعل بأن يصحّ إسناد الفعل إليه ، في حين أنّهم ذكروا أنّ
مِنْ علامات الفعل أن يقبل تاء الفاعل كما تقدم ، أي أن يصحّ إسناده إليها ، وهذا
ما يقتضي الدور ؛ (( حيث عرّف الفعل هنا بقبول تاء الفاعل ، وعرَّف الفاعل في بابه
بأنّه الاسم المسند إليه فعل )).
وهكذا رأينا كيف يمكن أن يدخل الدور في حدّ الفاعل . فلننظر الآن ماذا يقول
النحويون في محاولتهم تخليص هذا الحد من ذلكم الدور ودفعه عنه ؟
لقد التمس بعضهم تفسيراً آخر لمعنى الفاعل في قول ابن مالك (بتا فعلت) غير
معنى الفاعل الاصطلاحي الذي وقفنا عليه قبل قليل ! ذلك من أجل الابتعاد بحدِّ
الفاعل عن الوقوع في ظاهرة الدور ، ولهذا قالوا إنَّ المقصود بتاء الفاعل ههنا ((
مَنْ أُسنِدَ إليه فعل على جهة القيام به ، أو الوقوع منه ثبوتاً أو نفياً لا
الفاعل اللغوي ، وهو من أوجد الفعل ؛ لئلا تخرج تاء نحو: مِتّ ، وما ضربْت ، ولا
الاصطلاحي ؛ لئلا تخرج تاء كان وأخواتها ، ويلزم الدور بأخذه في تعريف الفعل ، ثم
أخذ الفعل في تعريفه بأنه الاسم المسند إليه فعل ))