أسباب الانحراف الفكري وعلاجه الشامل في الإسلام
هذا البحث يقدّم رؤية عامة لأسباب
الانحراف الفكري المؤدي إلى الغلو والتطرف، ويوضّح الطرق الصحيحة لعلاجه، من خلال التأصيل
الشرعي، والتكييف الفقهي، والتحليل العلمي.
وقد بدأ الكاتب بحثه ببيان أنواع
الانحراف الفكري،
ثم بيّن أسباب الانحراف الداخلية،
فذكر منها: التربية الدينية الخاطئة، والقهر السياسي وتعذيب الدعاة، والجهل المركب
وعدم الفقه في الدين وسنن الله تعالى، وتوسع في ذكر مظاهر هذا السبب: والتي من أهمها:
الأخذ بشكل النص وظاهره دون مقاصده وعلله ومآلاته ومناطه، والجهل بسنن الكون والحياة
والأمة، وسنّة التدرج، واتباع المتشابهات وترك المحكمات، وتبني فكر التكفير أو التضليل
للمخالفين، والتساهل في تجريحهم وتفسيقهم) ثم باقي الأسباب الداخلية وهي: ترأس الجهال
الضلال، والفقر والبطالة والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
ثم ذكر الأسباب الخارجية، وهي:
غربة الإسلام في ديار الإسلام، والهجوم العلني على الإسلام، ومُصادرة حرية الدعوة،
واحتلال الكيان الصهيوني لفلسطين، والتآمر على ثورات الشعوب.
ثم انتقل للحديث عن آثار الانحراف
الفكري.
وصولاً إلى العلاج، المتمثل في:
علاج التربية الدينية الخاطئة بالتربية الدينية الصحيحة، والعناية القصوى بتوسيع دائرة
الولاء والأخوة الإسلامية لتشمل جميع أهل القبلة، مع عدم إغفال الجانب العقابي من خلال
العقوبات من الحدود والتعازير المرتبطة بما ينتج من الانحراف الفكري من التطرف والإرهاب.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن أُسّ البلايا، وأُمّ الشرور والرزايا
تكمن في الانحراف الفكري، فهو الينبوع المفجّر لكل المفاسد من الضلالة والإرهاب على
مرّ التأريخ، ومنه تنطلق الأفكار الهدّامة والعقائد الباطلة، والتصورات الفاسدة التي
تحرك الناس نحو التدمير والتخريب.
ولذلك أولى اللهُ -تعالى- في كتابه الكريم
العناية القصوى بالفكر والتصوّر الذي يعبر عن عقيدة الإنسان، فركّزت الآيات القرآنية
ثم التربية النبوية على تصحيح التصورات والأفكار حول القضايا الكبرى، وهي الخالق، والمبدأ،
والمنتهى، والمهمة، والرسالة، والأهداف، ثم تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه
وبين سائر المخلوقات.
فإذا صلح الفكر والتّصور فقد صلح التّوجه،
وتحرّك العمل نحو الهدف المنشود، وإذا فسد الفكر والتصور فسدت العقيدة، وأصبح القلب
مريضاً، والروح شريرة، والنفس أمّارة بالسّوء.
لذلك كان طلبُ المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
بتخصيص محور حول (ظاهرة الغلو والتطرف في تاريخ المسلمين)؛ كان وجيهاً وفي مكانه، فكل
المصائب والنكبات والانتكاسات والهزائم جاءت من الانحراف الفكري، كما أن الفكر السليم
هو الذي يحرّك الأمة نحو أهدافها المنشودة ويحقق الحضارة والتقدم.
لذلك سيكون بحثي حول هذا الموضوع المهم تحت
عنوان: (أسباب الانحراف الفكري وعلاجه الشمل في الإسلام) موضحاً أسبابه، وعلاجه من
خلال التأصيل الشرعي، والتكييف الفقهي، والتحليل العلمي.
وأسأل الله أن يكتب لنا التوفيق فيما أصبو
إليه، مستغيثاً به -تعالى- أن يحقق لنا من الأهداف والغايات المرجوة من هذا البحث والمؤتمر،
ومتضرعاً إليه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير.
كتبه الفقير إلى الله: علي بن محيى الدين
القره داغي، الدوحة: 01/ رجب/ 1437هـ
· التعريف
بالعنوان:
يتكون العنوان من ثلاث كلمات نعرّف بها،
ثم نعرّف بالمصطلح المركب منها:
1) الأسباب جمع سبب، وهو لغة: الحبل، وكل
شيء يُتَوصل به إلى غيره، وفي التنزيل: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}[الكهف:
84]، وبمعنى الطريق المادي والمعنوي باعتباره وسيلة للوصول، وأسبابُ السماء مراقيها
ونواحيها ففي القرآن الكريم: {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ♦ أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ …}[غافر:36-37]، وأسبابُ الحكم في القضاء ما تسوقه المحكمة من أدلة واقعية
وحجج قانونية لحكمها.
وفي الاصطلاح الأصولي: هو ما يكون طريقاً
إلى الحكم من غير تأثير، أو أنه: وصفٌ ظاهر منضبط معرف للحكم. وهناك تفاصيل حوله لا
تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها.
والمراد بالأسباب هنا: كل ما له دور في صناعة
الانحراف الفكري سواء كان سبباً مباشراً أم غير مباشر، وسواء كان تنطبق عليه شروط السبب
في علم أصول الفقه أم لا.
2) الانحراف مصدر انحَرَفَ بمعنى مال عن
الاعتدال، وأصله من حَرَفَ عنه حرفاً أي مال وعدل عنه، ويقال: حَرَفَ الشيء عن وجهه
أي صرفه، وحرّف الكلام أي غيّره لفظاً وصياغة أو معنى، أو هما معاً ومنه قوله -تعالى-
في وصف اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ...}[المائدة: 13].
3) الفِكر لغة من فَكَرَ في الأمر فكراً
أي أعمل العقل فيه ورتّب بعض ما يعلم ليصل به إلى معرفة مجهول، وفكّر في الأمر مبالغة
فكر، وفكَّر في المشكلة تفكيراً أي أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلّها، فهو مفكر، وافتكر:
تذكر، وتفكر في الأمر: أعمل عقله فيه، والفكَر-بفتح الكاف- بمعنى الحاجة فيقال: ليس
لي في هذا الأمر فكر، أي حاجة.
والفكر في الاصطلاح لا يخرج معناه عن المعاني
السابقة، فهو إعمال العقل للوصول إلى معرفة مجهول، أو حل مشكلة، أو التوفيق بين المفاهيم
الفلسفية والمفاهيم الدينية .
إذن فإن عملية التفكير، والفكر نشاط عقلي،
وفهم وتصورات تختلف من شخص إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى.
والأفكار لها أنواع كثيرة، منها الفكر المادي،
والفكر الديني، والفكر العلماني، والفكر الاصلاحي ... الخ، ولا تسمح طبيعة البحث بالخوض
فيها .
· المراد
بالعنوان:
وبتعريف الكلمات الثلاث اتضح لنا المراد
بعنوان البحث، حيث إن البحث يسعى لبيان كل ما يؤدي إلى ميل العقل عن الحق، ولا سيما
في مجال الارهاب والغلو والتطرف.
أنواع الانحراف الفكري:
تبين لنا أن الانحراف الفكري يشمل جميع أنواع
ميل العقل عن الحق والعدل والمنهج الوسطي الإسلامي إفراطاً وتفريطاً، وبالتالي فهو
يشمل ما يأتي:
أولاً: الانحراف العقدي، حيث يقع هذا النوع في أولى درجات الانحراف وهو أمّ الانحرافات الأخرى، ولهذا الانحراف العقدي مراتب ودرجات حسب التسلسل الآتي:
1) مرتبة الكفر بمعناه الشامل، وتشمل:
أ. الإلحاد، وعدم الايمان بالله تعالى .
ب. الارتداد عن الإسلام والخروج منه خروجاً
كاملاً .
ج. الشرك بالله -تعالى- وعبادة غيره من الأوثان،
كما هو الحال في الوثنيين وعبدة الأصنام ونحوهم من المشركين.
والتحقيق أن هذه الأنواع الثلاثة بمثابة
درجة واحدة، أو أنها متقاربة جداً من حيث الخطورة .
د. الانحراف المتعلق بعقيدة بعض أهل الكتاب
من اليهود والنصارى مما ذكره القرآن الكريم من التثليث وتعظيم البشر، والصفات غير اللائقة
لربّ العالمين، كل ذلك انحراف خطير يجعل من يؤمن به خارجاً عن الصراط المستقيم صراط
الأنبياء والمرسلين.
2) مرتبة الانحراف الذي يخرج صاحبه عن المنهج
الوسط المعتدل، ولكن لا يخرجه عن الملة والإسلام، وهذا الانحراف يشمل كما قال أبو يوسف
بن أسياط: أصول البدعة في العقيدة، وهي: الخوارج: والروافض، والقدرية، والمرجئة.
ويدخل في عالمنا المعاصر الجماعات المتطرفة
المنتسبة إلى الإسلام مثل القاعدة، وداعش، ونحوهم من التكفيريين، وكذلك الجماعات المتطرفة
الشيعية، والعلمانيون الذين يصلّون ويصومون ولكنهم لديهم غبش كثير حول الحكم بما أنزل
الله.
ثانياً: الانحراف الخلقي والسلوكي، فمن رحمة
الله -تعالى- بعباده أنه لم يجعل ترك العبادات وفعل المنكرات كفراً ما دام الإيمان
بالله -تعالى- وبما أنزله قائماً، فقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى
إِثْماً عَظِيماً}[النساء: 48].
تحديد مجالات البحث:
ونحن في هذا البحث نركز على الانحراف الفكري
المرتبط بالانحراف عن المنهج الوسط، والغلو الخاص بالجماعات المتطرفة التي عاثت في
الأرض فساداً، وملأت الأرض دماءً فذبحت وقتلت من المسلمين الكثير والكثير، ولا يتورعون
في التفجيرات التي تؤدي بقتل آلاف من النساء والأطفال والأبرياء الذي اشتهروا في عصرنا
الحاضر بالإرهابيين.
وذلك لأن مصطلح (الانحراف الفكري) واسع جداً،
ولا يمكن أن يقوم بحث واحد ببيان جميع أنواعه مع الأحكام، ولذلك خصصناه بما هو الأهم
المعاصر.
· أسباب
الانحراف الفكري:
اختلفت وجهات نظر الباحثين والسياسيين في
أسباب الانحراف الفكري، فمنهم من يرجعها إلى أسباب اقتصادية من الفقر والبطالة، ولكنها
تضعف وجاهة هذا السبب بأن الانحراف الفكري ليس بين الفقراء والعاطلين فقط، ولا في الدول
الفقيرة فحسب، وإنما يشمل الأغنياء والدول الغنية أيضاً، فكان أول تطرف فكري مصحوب
بالعنف المفرط ظهر بشكل سافر في العقود الأخيرة كان في جماعة جهيمان الذين احتلوا الكعبة
المشرفة وأراقوا فيها الدماء في الأول من شهر المحرم الحرام عام 1400هـ؛ فاعتدوا على
حرمة المكان والزمان، وفي دولة ترفع شعار التوحيد وتطبيق الشريعة، ولم يكن دافعهم القضية
الاقتصادية وإنما كان السبب: الفهم الخاطئ. وكذلك جماعة التكفير والهجرة التي نشأت
داخل السجون المصرية، ولم تظهر بسبب الفقر وحده، بل بسبب الظلم والتعذيب والفكر الخاطئ
أيضاً.
وتاريخياً فإن الخوارج ظهرت جذورها في عصر
الرسالة، ولا يعود سببها إلى الفقر، أو الاقتصاد، وكذلك الفرق الضالة، نعم يمكن القول
بأن رؤوس الضلالة يستغلون الفقر لتجنيد الشباب وتوسيع دائرة ضلالتهم.
ومنهم من أرجع ذلك إلى أسباب تربوية أو نفسية
أو اجتماعية أو فكرية، أو نحو ذلك.
ولكن التحقيق هو النظرة الشمولية إلى الأسباب،
بأن كل هذه الأسباب وغيرها كان لها دور في إيجاد التطرف الفكري وتوسيع دائرته.
ويمكننا أن نقسم هذه الأسباب إلى قسمين:
أسباب داخلية داخل الجماعات المتطرفة أنفسها، وأسباب خارجية.
· فأما
الأسباب الداخلية فهي:
السبب الأول: التربية الدينية الخاطئة السائدة
في المجتمع: في البيت والمدرسة والجامعة والجامع (أي البيئة الصانعة والحاضنة):
درستُ الجماعات المتطرفة في عصرنا الحاضر
مثل القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وقبلهما الخوارج، ثم جماعة
جهيمان "الجماعة السلفية المحتسبة بالمملكة العربية السعودية" في بداية القرن
الخامس عشر الهجري الحالي، وجماعة "التكفير والهجرة" في ستينيات القرن العشرين
الميلادي، وأواخر القرن الرابع عشر الهجري، فوجدت أن أصولهم الجامعة هي التكفير لعامة
المسلمين، فاستحلال دمائهم وأموالهم، ثم التفجير والتدمير. وأن السبب الأساسي الأول
هو التربية الدينية المبنية على أسس خاطئة من الإفراط والتفريط، والبيئة الحاضنة التي
لها دور في نشأة الإنسان سلباً وإيجاباً.
فقد أشار القرآن الكريم إلى دور المكان
(البيئة) في نشأة الإنسان، فقد ذكر سيدنا يوسف -عليه السلام- مكان إخوانه الذين أساؤوا
إليه، ثم كذبوا بأنه شرّ مكاناً عندما فقالوا: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ
مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ
شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[يوسف:77]، بل إن الله -تعالى-
وصف أهل الضلالة في سورة الفرقان بهذا الوصف فقال تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ
وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ}[الفرقان:34]، كما بيّن أنهم سيعلمون من هو شرّ مكاناً
فقال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا
حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ
مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا}[مريم: 75]، ووصف الله -تعالى- في سورة
المائدة الملعونين والمغضوب عليهم وعبدة الطواغيت بقوله:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ
مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا
وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة: 6]، فهذه الآيات الأربع في مناسبات مختلفة
تدل بوضوح على الدور المؤثر للمكان والبيئة الحاضنة في الضلالة والانحرافات الخطيرة،
أو في الالتزام بالمنهج القويم والصراط المستقيم.
والمراد بالمكان ليس الأرض من الناحية الجغرافية،
وإنما المقصود هو من يسكنها من الناس المصلحين، والصالحين والأبرار، أو الطالحين والمسيئين
والمفسدين الأشرار، وكذلك الأصدقاء، والبيئة الاجتماعية، والأسرة والمجتمع، والمحيط
الذي يدور فيه الفرد، أو الجماعة.
فهذه البيئة -بصورة عامة- بهذا المعنى هي
الحاضنة والمربية للأفكار والتصورات والسلوكيات إلاّ ما شاء الله تعالى، وبالمقابل
فإن تغيير البيئة والمكان سلباً أو إيجاباً، خيراً أو شراً، هداية أو ضلالة، إفراطاً
وتفريطاً أو وسطاً هو المطلوب شرعاً وعقلاً مهما كلفنا الوقت والعمل، قال تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا
مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}[الرعد:11]، وقال تعالى: {ذَٰلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ}[الأنفال: 53].
ومن المعلوم من الناحية الدينية والعلمية
والنفسية أن تغيير البيئة الحاضنة للكفر والضلال، والفساد والشرور والجرائم، إلى البيئة
الحاضنة والمربية للخير والهداية والمنهج الوسط يحتاج إلى جهد كبير، ومنهج سليم، ورؤية
واضحة، وأهداف سامية وبرامج ومشاريع عملية وأدوات ووسائل منتقاة، ورجال صادقين مخلصين
مضحّين، وزمن قد يستغرق عقوداً إلاّ في حالات خاصة تكون الأمة مستعدة ويرسل لها رسولاً
فيقوم بتغييرها من خلال التربية والتزكية وتوجيه العقل نحو الحكمة، ويقودها بسرعة إلى
العزة والنصر والتمكين.
ومن الناحية العملية أن الانحراف يتحقق عندما
يضعف الإيمان الحقيقي والعقيدة الصحيحة، ويغيب المنهج الصحيح، وحينئذ يتمكن الشك فيما
سبق، وتدفع العواطف والمؤثرات الخارجية نحو التطرف والانحراف.
· والشباب
ثلاثة أنواع:
1) نوع قد تمكنت لديه العقيدة الصحيحة والمنهج
الوسطي المعتدل، فهذا النوع يصعب على الانحراف التأثير عليهم إلاّ نادراً وبمشيئة الله.
2) نوع آخر غضٌّ قلبه، طريٌّ فكره، لم يبذل
أي جهد لتثبيت العقيدة الصحيحة والمنهج الوسط المعتدل، فهذا النوع إن سبق إليه قادة
الفكر الانحرافي سيؤثرون فيه إلاّ ما شاء الله، من خلال الظروف الخاصة وتفكيك قيم الوسطية.
وللحق أقول: إن هذا النوع كثير، وهو دليل
أيضاً على تقصير الدعاة، والمؤسسات التعليمية والتربوية، والمساجد، والإعلام.
3) نوع ثالث لديه الخلط والشك، واصطياد هذا
النوع من قبل دعاة الضلالة أيضاً سهل، وهذا النوع أيضاً يتحمل المجتمع ووسائله مسؤوليته
من خلال عدم القيام بالواجب المطلوب نحوهم.
السبب الثاني: القهر السياسي وتعذيب الدعاة،
والاستبداد والدكتاتورية التي منعت حرية الآراء والأفكار، وقمعت المعارضين بالقوة والسلاح،
وأنواع التعذيب وألوان الأذى، والسجون التي خرجت عن دائرة كرامة الإنسان وحقوقه، ولذلك
نرى أن أول فكر متطرف ظهر في سجون عبد الناصر عندما قبض على الشباب المسلم بالآلاف
وعذبوا بصنوف العذاب، وأوذوا بأنواع الأذى، واستمعوا إلى كلمات السب والشتيمة، والقذف
والكفر من زبانية السجون، حيث ظهرت جماعة التكفير والهجرة بقيادة "مصطفى شكري"
التي قامت على تكفير المجتمع إلا من يؤمن بالمبادئ التي حددتها، وبوجوب الهجرة من دار
الكفر (أي التي لا تحكم الدولة فيها بالشريعة) إلى دار الإسلام، فالاستبداد دائماً
يولد العنف لدى الآخرين، ويجعلهم لا يفكرون في وضح النهار، وإنما في جنح الليل وفي
الظلام الدامس وفي الأماكن السرية؛ فتنمو الأفكار المتطرفة في هذه الأجواء الكابتة.
فقد مُنعت الدعوة الإسلامية أن تقوم بعملها
جهراً، فاضطرت للعمل السري، بل رأى الشباب المسلم حينما سجن كيف يُعذب الدعاة بألوان
من الإيذاء والعذاب ما تقشعر من ذكره الأبدان، وما يشيب من هوله الولدان، فقد شويت
الأجسام الغضة بالكرابج شيّاً، وكويت بالنيران وأعقاب السجائر كيّاً، وعلق الرجال من
أرجلهم كما تعلق الذبائح، يتناوبهم الجلادون واحداً بعد الآخر، كلما تعب أحدهم أخذ
منه الجلاد الآخر، حتى يصير الجسد كومة من الدم والقيح والصديد، وكم من أناس سقطوا
شهداء تحت العذاب، لم يرقّ لهم ولم يعبأ لهم القساة الجبارون الذين لم يخشوا خالقاً
ولم يرحموا مخلوقاً، ولم يفكروا في محاسبتهم.
لقد استخدم في حق الشباب والدعاة المسجونين
كل ما عرفته النازية والفاشية والشيوعية، وزادوا على ذلك بأساليب ابتدعوها في إيذاء
الأبدان، وتعذيب النفوس، وسل الأمخاخ، وإهدار الآدمية .
في الوقت الذي كان أهل الباطل يمرحون، وأهل الفسق
والفجور والمجون يكرّمون.
في داخل هذا الأتون لتعذيب البشر ولد التطرف
عملاقاً، وظهر التكفير جهاراً ونهاراً، حيث ظهرت جماعة التكفير والهجرة داخل السجون،
ورد عليهم الأستاذ الهضيـبي في كتابه (دعاة لا قضاة)، حيث بدأ هؤلاء المعذبون بسؤال
بسيط لأنفسهم: لماذا هؤلاء يعذبوننا هذا العذاب الأليم؟ لِمَ كل هذا التعذيب؟ وأي جريمة
اقترفناها غير أننا قلنا ربنا الله ومنهجنا الإسلام ودستورنا القرآن؟ فوصلوا إلى الحكم
بأن هؤلاء الوحوش الكاسرة التي نهشت لحومهم: كافرة، وأن هؤلاء الحكام من ورائهم الذين
لا يحكمون بما أنزل الله بل يعذبون من يطالب بذلك: كفار فسقة فجرة. هكذا تأصل التكفير
والتطرف، وهنا تمكن الانحراف الفكري، وترسخت مقولاته.
· السبب الثالث: الجهل المركب وعدم الفقه في الدين وسنن الله تعالى:
أي أن الشخص في حقيقته جاهل، ولكنه يجهل
أيضاً أنه جاهل، أو بعبارة أخرى: أنه يظن أنه قد بلغ مرتبة الاجتهاد فيجتهد، ولكنه
في الحقيقة لم يبلغ تلك الدرجة، وقد نبّه على ذلك الإمام الشافعي، حيث جعل أول أسباب
الابتداع والاختلاف المذموم المؤدي إلى تفرق الأمة شيعاً، وجعل بأسها بينها شديداً:
أن يعتقد الإنسان في نفسه -أو يُعتقَد فيه- أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين، وهو
لم يبلغ، فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، حتى يعبر منها ما ظهر له
بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه
نبّه الحديث الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه
من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً
فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
· ويدخل
في هذا الباب ما يأتي:
1. الأخذ بشكل النص وظاهره دون مقاصده وعلله
ومآلاته ومناطه وبالتالي عدم التفقّه في النصوص الشرعية، مع أن رعاية المآلات والنتائج
معتبرة في هذه الشريعة باتفاق الراسخين في العلم؛ ويدل عليه الحديث الصحيح المتفق عليه
بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل رأس المنافقين مع أنه قال: {لَئِن رَّجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}[المنافقون:8].
وعلل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: (لا
يتحدث الناس: أن محمداً يقتل أصحابه).
2. ضعف المعرفة بالتأريخ وعدم الفقه بسنن
النصر والهزيمة، والجهل بسنن الكون والحياة والأمة، وسنّة التدرج وسنّة الأجل المسمى
(أي الوقت المناسب).
3. اتباع المتشابهات وترك المحكمات والتباس
المفاهيم، والاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى، قال عمر رضي الله عنه: "سيأتي
أناس يأخذونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإنّ أصحاب السنن أعلم بكتاب الله".
4. المبالغة في التوسع في دائرة البراء،
والتضييق في دائرة الولاء.
5. تبني فكرة التكفير أو التضليل للمخالفين
من الفرق الإسلامية الذين لهم تأويل سائغ -حتى ولو لم يكن الراجح في نظر الآخرين- مثل
الأشاعرة، والماتردية؛ الذين يمثلون جماهير الأمة خلال عشرة قرون، وكذلك الحكم بالكفر
أو التبديع للجماعات المعاصرة مثل: جماعة الدعوة والتبليغ، والإخوان، والسروريين ونحوهم،
أو الكفر لمن لم يحكم بما أنزل الله على العموم والاطلاق.
6. الاعتماد على بعض الآيات أو الأحاديث،
وترك ما سواها، مع أن منهج السلف الصالح هو جمع الأدلة كلها ثم استخراج الحكم منها،
فقد ورد بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع جماعة من الصحابة تماروا
في آية من القرآن الكريم، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مغضباً قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: (مَهْلًا يَا قَوْمِ! بِهَذَا أُهْلِكَتِ
الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمُ
الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ
بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ،
وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ).
ولذلك كان علماء السلف يوصون بهذا العالم
الرباني الربيع بن خثيم يقول تلميذه: "يا عبدالله! ما علمك الله في كتابه من علم
فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكِلْهُ إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله عزّ
وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ*إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ*وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص: 86-88].
7. الإسراف في إطلاق التحريم في الفتاوى،
والتشدد في الأحكام، والتساهل في تجريح الآخرين، وتفسيقهم بل وتكفيرهم.
فقد حدثني أحد الأساتذة في جامعة الكويت
فقال: لقد ناقشني أحد الطلبة في الجامعة فقال: إن الشيخ (أحد الدعاة الكبار المعروفين)
يكفُر بسبعة عشر خطأ، ويفسُق بستين خطأ، فقلت له: هل يمكن سردها؟، قال: فبدأ بسردها
واحداً تلو الآخر، فقلت: هل كان منهج السلف هكذا؟! لو حفظت بدل هذا آيات، أو أحاديث،
أوَ ما كان أحسن لك ؟!
· السبب
الرابع: ترأس الجهال الضلال:
وهذا ما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- في حديث صحيح يرويه الإمام البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ
العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ
عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ،
فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)[ 13 ]، وهؤلاء الرؤوس الجهال في الفقه العميق وعلم أصول الفقه
والمقاصد لهم قدرة على تضليل هؤلاء الشباب، باستعمال إثارة العواطف الجياشة لدى الشباب
من خلال تضخيم دور هؤلاء الرؤوس وأهميتهم، وإسقاط بقية العلماء في أعين الشباب، وتشويه
الصراعات والتوتر الدائم، والإعجاب بهؤلاء الرؤوس الضالّة للوصول إلى التقليد الأعمى
وتعطيل العقل.
السبب الخامس: الفقر والبطالة، والمشاكل
الاقتصادية والاجتماعية، حيث إن لهذه الأمور دوراً، يشتغلها أصحاب الفكر المنحرف لزرع
الكراهية، ولكسب الشباب المحتاج.
· وأما
الأسباب الخارجية للانحراف الفكري (أي خارج جماعة المتطرفين) فتعود إلى ما يأتي:
1. غربة الإسلام في ديار الإسلام، حيث يرى
المسلم في دار الإسلام أن الفساد يستشرى والباطل يتبجح، والعلمانيين يبوحون بكل ما
يريدون، والخمر تُشرب، والفواحش ترتكب جهاراً، والأفلام الداعرة تنشر، والمسرحيات والتمثيلات
تنال من الإسلام، ناهيك عن استعراضها للفساد والمتبرجات.
ويرى المسلم أن معظم الدول ينصّ دستورها
على الإسلام، في حين لا يُطبق شرع الله في معظم مجالات الحياة، بل تقنن قوانين تبيح
ما حرمه الله من الخمور والزنا ونحوها، ومن جانب آخر يرى أن معظم الحكام لا يولون عنايتهم
الخالصة بقضايا الأمة، بل خائضون في ملذاتهم ولهوهم في حين أن الشعوب المسلمة في محن
ومصائب ومشاكل وفي فقر. كما يرى الظلم الاجتماعي على أشده، وأن استغلال المناصب للإثراء
بدون سبب مشروع، فاللصوص الكبار يتمتعون بالحرية والتكريم واللصوص الصغار قد يتعرضون
للعقاب.
فالشاب المسلم الملتزم حينما يرى هذا التناقض
الغريب إذا لم يكن لديه الفقه المكين يتجه نحو التشدد وتكفير المجتمع.
2. الهجوم العلني على الإسلام، وإعلان الحرب
ضدّه دون عناية من معظم الحكام بهذه الهجمات الخطيرة.
3. مُصادرة حرية الدعوة وعدم إفساح المجال
للدعوة والدعاة، حيث إن الحديد لا يفلّه إلاّ الحديد، فلو كان هناك مجال للدعوات الإسلامية
المعتدلة كان بوسعها إقناع الشباب بالمنهج الوسطي المعتدل.
4. الكيان الصهيوني واحتلال قبلة المسلمين
الأولى: فمن أهم أسباب الانحراف الفكري، والتطرف والعنف والإرهاب: وجود العدو الصهيوني
على الأراضي الفلسطينية العربية المسلمة، وما تعبث فيها من تقتيل وتشريد دون رعاية
لهذه الأمة، ولا احترام لأي قرار للأمم المتحدة، ومع ذلك يقف معهم العالم الغربي وبالأخص
أمريكا، وأن معظم الدول العربية والإسلامية تقف بين متفرج، ومتعاون ومتآمر، وبين عاجز.
يعود الصراع الحاد داخل العالم الإسلامي
إلى الاتيان باليهود وزرعهم في فلسطين، ثم احتلالهم لها باسم الدين، حيث تعتقد اليهود
أن فلسطين كلها أرض الميعاد، وهي أرضهم المقدسة، وأن هجرتهم إليها تعبير عن إرادة الله،
معتمدين على التلمود الذي يعتبر فلسطين نقطة الارتكاز للسيطرة على العالم، لأنها هي
قطب العالم الذي يجب أن تقوم فيه الدولة العبرية، واستطاعت الصهيونية العالمية من خلال
مؤتمراتها وبالأخص مؤتمر بازل في عام 1897م أن تستغل العاطفة الدينية الكامنة لدى اليهود
وتسخيرها لخدمة مطامعها السياسية الاستعمارية حتى أصبحت أرض الميعاد من أهم أسس الصهيونية
ومقوماتها، وتمسكت بالوعود التوراتية لأرض الميعاد وحدودها والتوسع فيها، حيث يقول
"بن غوربون" في الكتاب السنوي لعام 1951: "الآن فقط وبعد سبعين سنة
من كفاح الرواد استطعنا أن نصل إلى أول استقلالنا في جزء من وطننا العزيز". ولم
يكتف بذلك، بل دعا إلى التوسع معتمداً على نصّ من التوراة يخبرهم بأن "كل مكان
تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم"، وقال "ليفي أشكول" رئيس وزراء إسرائيل
الأسبق: "لا يزال هناك عشرون ألف كيلو متر من فلسطين القديمة لم نضع أيدينا عليها
حتى الآن"، وقد فسّر "إيريك رولو" المحرر السياسي لصحيفة اللوموند الفرنسية
في عدد صادر قبيل عدوان حزيران 1967 قول
"أشكول" بأنه يقصد أن جزءاً من العراق وسوريا، وكافة الضفة الغربية وشرق
الأردن هي أجزاء فلسطين القديمة التي يحلم أشكول أن يضع يده عليها
· علاقة
الكيان الصهيوني بالانحراف الفكري:
والمقصود بذلك أن احتلال الأراضي الفلسطينية
من قبل الصهاينة أدى إلى انفجار الوضع في فلسطين، التي كانت آهلة بسكانها الفلسطينيين؛
فنشب الصراع الدموي بين الطرفين، واستعملت اليهود كل الوسائل القاسية والإرهابية لطرد
الفلسطينيين وبناء المستعمرات، وإحلال اليهود مكانهم، ونشأت من ذلك عصابات صهيونية
عاثت في الأرض فساداً ونشرت الرعب بين الآمنين .
إن المشروع الصهيوني يقوم على إبقاء القوة
لدولة إسرائيل وإضعاف المشروع الإسلامي الذي يعدّ الوحيد القادر على مقاومته، حيث أثبتت
التجارب أن المشاريع العلمانية والقومية والشيوعية لم تستطع أن تواجه المشروع الصهيوني،
بل انهزمت، وسقطت قواها منذ حرب 6 حزيران، وأن الخطر الداهم على مرّ التأريخ يأتي من
الإسلام والمسلمين؛ لذلك يقوم المشروع الصهيوني على التفكيك للحكومات بتقسيم المقسم،
وتجزئة المجزّأ، وبالتفريق والتمزيق للشعوب المسلمة، والاضطرابات والفوضى الهدّامة،
ولذلك يبذل المشروع الصهيوني كل إمكانياته المتاحة لتحقيق تلك الأهداف.
وإنه مما لا ريب فيه أنه لا توجد وسيلة لتمزيق
الأمة أخطر من الانحراف الفكري، ولذلك يبذل الصهاينة ومن معهم كل جهدهم لتحقيق هذا
الهدف الخطير، من خلال وسائل الإعلام المتنوعة، ومن خلال مناهج التربية والتعليم في
المدارس والمعاهد والروضات والجامعات ونحوها، ومن خلال الاختراقات الخطيرة للفكر ولبعض
الجماعات.
إن مما لا يخفى على أحد أن هذه الأفكار التي
مزقت الأمة لم تنبع داخل العالم العربي والإسلامي، وإنما جاءت من الخارج، يقول برنارد
لويس وهو أحد قادة الاستشراف والفكر التغريبي: "إن العالم العربي والإسلامي لم
يكن يعلم عن القومية كأيدلوجية إلى منتصف القرن التاسع عشر ولكن الغرب هو الذي أصدرها
إلى العالم الإسلامي، وساندها النصارى في العالم العربي، واليهود في تركيا، فنشأ الصراع
بين القومية الطورانية، والقومية العربية وساندت الأخيرة بريطانيا وفرنسا بدعمها للثورة
العربية الكبرى، فأدى إلى سقوط الدولة العثمانية".
إن وجود الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي
هو بمثابة جرثومة تعمل ليلاً ونهاراً للقضاء على كل ما يجمع الأمة، ويحقق لها الخير
والحضارة والتقدم.
5. التآمر على ثورات الشعوب التي انتفضت
وثارت ضد الدكتاتورية والاستبداد وحكم العسكر: في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا،
حيث رأينا أن جماعة القاعدة قد ضعفت ولم يسمع لها صوت يقبل بين جماهير الأمة والشباب
أيام انتصار الثورة في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، إذ رأوا في البداية أن الثورات
السلمية تستطيع تغيير الحكام المستبدين، وبالتالي فلا حاجة ولا مبرر لاستعمال القوة
، لذلك لم نسمع للقاعدة أي دور في سوريا وغيرها.
ولكن عندما أفشلت ثورات الربيع العربي بالصورة
التي رأيناها من القتل والحرق للآلاف، والسجن لعشرات الآلاف مع التعذيب، والاعتداء
على الأعراض أصاب الشباب إحباط كبير من السلمية فبدؤوا -مع الأسف الشديد- يقتنعون بمقولات
القاعدة وداعش بأن السلاح والقتل هو الحل، فقويت القاعدة في سوريا، وظهرت داعش فيها
وفي مصر والعراق، والتفّ حول رايتهم عشرات الآلاف، فداعش في سوريا صنعها نظام بشار
الأسد مباشرة وتسبباً، وفي العراق صنعها نوري المالكي، بل ترك لها أربع فرق عسكرية
كاملة العتاد والعدة لتحتل بذلك داعش ثلث العراق، بما فيها أكبر محافظة عراقية بعد
بغداد وهي محافظة نينوى، وغنمت داعش آلاف الدبابات والمدرعات والأسلحة متطورة، وحتى
الطائرات.
· آثار
الانحراف الفكري:
إن آثار الانحراف الفكري كثيرة جداً، ونذكر
هنا أهم آثارها الخطيرة:
1. الغلو والتطرف في الأفكار والأقوال، والتشدد
والتعسير في الأحكام والفتاوى.
2. إرهاب الآمنين وترويعهم، بل قتلهم وحرقهم،
بل كثرة القتل والهرج والمرج.
3. إحداث الفتن بين الأمة الإسلامية وإضعافهم
بها، وبالتالي طمع الأعداء وتمدد مشاريعهم للقضاء عليهم كما نشاهد.
4. صناعة الفوضى الهدامة لأمتنا، والخلاقة
لأعدائنا كما نرى.
· العلاج:
إن العلاج الناجع للانحراف الفكري -كأي مرض-
يكمن في علاج أسبابه علاجاً شاملاً من خلال ما يأتي:
أولاً: علاج التربية الدينية الخاطئة بالتربية
الدينية الصحيحة، والبيئة الحاضنة للانحراف الفكري بالبيئة الحاضنة للفكر الصحيح المتنور،
والمنهج الوسط المعتدل في العقيدة والعبادة، والقيم والسلوك، والتربية على قيم الرحمة
والرأفة والرقة والحلم والأناة والصبر، ونحو ذلك مما أفاض فيه الإسلام وامتاز به بشكل
فريد، ونوجزه فيما يأتي:
1. إصلاح الجانب العقدي والفكري:
أصابت الأمة الإسلامية في قرونها الأخيرة
أمراض تتعلق بعقيدتها وفكرها حيث ظهرت الخرافات والشركيات والاستعانة بالجن والشياطين،
وطلب الواسطة بين العبد وربه بمختلف الوسائل، كما ضعف الولاء لله -تعالى- ولرسوله وللمؤمنين،
وقوي نحو الأعداء والمستعمرين والمحتلين، وقامت حركات جهادية في معظم العالم الإسلامي
ضد المحتلين فأخرجوهم عسكرياً، ولكن بقيت قوانينهم وهيمنتهم في معظم البلاد.
وفي علاج الخرافات والشركيات ظهرت حركات
استم بعضها برد الفعل الشديد فوسعت دائرة التكفير ودائرة البراء لتشمل كثيراً من الفرق
والطوائف والجماعات التي تختلف في موضوع الصفات على أساس التأويل.
فإذا أردنا العلاج الفكري والعقدي فعلينا
أن نحدّد الثوابت القواطع في مجال العقيدة التي هي مما عرف في الدين بالضرورة، ونجعل
ما عداها من الاجتهادات وإن كان مرجوحة، وبالتالي فلا يجوز الحكم بكفر قائلها، وأن
نُرسخ في الأذهان أن النصوص المتعلقة بالعقيدة ليست جميعها من الأصول القطعيات، بل
هي مثل بقية النصوص فيها الظنيات القابلة للتأويل والاستنباط المتعدد.
2. التركيز في تربيتنا الدينية على أن الإسلام دين الرحمة للناس كافة، بل للعالم أجمعين، فإذا كان الإرهاب بمعنى تخويف الآخرين قد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة، فإن لفظ (الرحمة) ومشتقاتها قد تكررت في القرآن الكريم مئات المرات، حيث أولى الإسلام عناية منقطعة النظير بالرحمة والعدالة والمعاني الإنسانية حتى لا نرى مثلها في أي نظام أو دين آخر، ويكفي أن نرى القرآن الكريم يكرر لفظة (رحم) ومشتقاتها أكثر من (340) مرة؛ إضافة إلى تكرار (الرحمن الرحيم) في "بسم الله الرحمن الرحيم" في بداية السور مائة وثلاث عشرة مرة، تحدث فيها عن عظمة الرحمة، وكونها صفة لربّ العالمين، بل إنها الكلمة الوحيدة التي اشتقت منها صفتان لله تعالى يذكرهما المسلم في صلاته، وعند بدئه بأي عمل فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، بل جعل الله -تعالى- الغاية من إنـزال هذه الرسالة المحمدية هو نشر الرحمة للعالم أجمع وليست للمسلمين وحدهم فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، وجعل الله تعالى: (رؤوف رحيم) من أسماء الرسول حيث قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128]، ويقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف: 156]، وجاءت السنة النبوية لتوضيح هذه المعاني السامية من خلال السنة القولية، والسنة العملية، فقد وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه بأنه (نبي الرحمة).
كما وضع -صلى الله عليه وسلم- قاعدة في غاية
من الأهمية تقضي بأنه (من لا يَرْحَم لا يُرْحَم)[وأن الله لا يرحم من لا يرحم المخلوقات،
إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا يمكن حصرها هنا، إضافة إلى أن سيرته -صلى الله عليه
وسلم- كانت تطبيقاً لهذه الرحمة، حيث كان يُؤذَى من قبل قومه بشتى أنواع الأذى والإهانة،
ومع ذلك يمتنع عن أن يدعو عليهم، أو يطلب من الله -تعالى- أن يهلكهم بصاعقة في الدنيا،
بل كان يدعو لهم، ويرجو أن يخرج من أصلابهم مَنْ يعبد الله ، وينتصر في فتح مكة ويرى
كل أعداءه الذين آذوه فيقول لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ومع كل ذلك لم ينج الإسلام من هجمات الأعداء، فوصفوه
بالقسوة في تشريعاته ولا سيما في الحدود، وبالعنف في استعماله القوة، وأنه انتشر بالسيف،
فدين تحتل الرحمة فيه هذه المكانة لا يمكن أن يجيز لأتباعه إرهاب الآمنين الأبرياء.
3. التركيز على أن الإسلام دين الأمن للإنسان، والسلام لهذا الكون كله: وأحد أسماء الله تعالى السلام، وليلة نـزول القرآن هي ليلة السلام بنص القرآن الكريم {سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5]، بل الإسلام مشتق من لفظ (السلم) وأن تحية المسلمين في الدنيا هي (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وتحيتهم في الجنة أيضاً السلام، قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}[الأحزاب:44].
وقد أمر الإسلام بالجنوح إلى السلم حتى مع الأعداء
المحاربين ما داموا قد جنحوا إليها حتى ولو أرادوا الخداع، كما سبق.
ودلت أحاديث كثيرة على حرمة ترويع المسلم وكذلك من
يعيش على أرض الإسلام بأمان حتى ولو على سبيل المزاح والهذار، فقد عقد المنذري في كتابه
الترغيب والترهيب باباً مستقلاً للترهيب من ترويع المسلم، ومن الإشارة إليه بسلاح ونحوه
جادّاً أو مازحاً[ذكر فيه أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ)،
ومنها ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود بسندهم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: (حَدَّثَنَا
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ
بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)، وفي
حديث آخر رواه الطبراني بسند رواته ثقات عن النعمان بن البشير عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)، وفي حديث آخر رواه البزار
والطبراني عن عامر بن ربيعة أن رجلاً أخذ نعل رجل فغيّبها وهو يمزح، فذكر ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تُرَوّعُوا المُسْلِمَ،
فَإنَّ رَوْعَةَ المُسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيْمٌ)، ولم يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أي مجال للتخويف حتى ولو بالنظر، فقد روى الطبراني بسنده عن عبدالله بن عمرو عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ نَظَرَ إلى مُسْلِمٍ نَظْرَةً يُخِيفُهُ فِيهَا بِغَيْرِ
حَقِّ أَخَافَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
وقد طبقت هذه التوجيهات في عصر الخلافة الراشدة، عن الحسن قال: (أَرْسَلَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى امْرَأَةٍ مُغَيَّبَةٍ كَانَ يُدْخَلُ عَلَيْهِا، فَأَنْكَرَ
ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقِيلَ لَهَا: أَجِيبِي عُمَرَ، فَقَالَتْ: يَا وَيْلَهَا
مَا لَهَا وَلِعُمَرَ؟ قَالَ: فَبَيْنَا هِيَ فِي الطَّرِيقِ فَزِعَتْ فَضَرَبَهَا
الطَّلْقُ فَدَخَلَتْ دَارًا، فَأَلْقَتْ وَلَدَهَا، فَصَاحَ الصَّبِيُّ صَيْحَتَيْنِ
ثُمَّ مَاتَ! فَاسْتَشَارَ عُمَرُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ: أَنْ لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، إِنَّمَا أَنْتَ وَالٍ
وَمُؤَدِّبٌ قَالَ: وَصَمَتَ عَلِيٌّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ:
... أَرَى أَنَّ دِيَتَهُ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ أَفْزَعْتَهَا، وَأَلْقَتْ وَلَدَهَا
فِي سَبَبِكَ قَالَ: فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَقْسِمَ عَقْلَهُ عَلَى قُرَيْشٍ).
فهذا الأثر التطبيقي يدل بوضوح على أن الترويع حتى
بالوسائل المعنوية يترتب عليه العقوبة في الدنيا أيضاً.
وقد شدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحفاظ على جمال الإنسان وعدم تشويه
صورته حتى في القتال، لأن الله -تعالى- خلق آدم على صورته، ولأنه أكرمه وخلقه في أحسن
تقويم، فقد عقد مسلم في صحيحه باباً للنهي عن ضرب الوجه، حيث روى بسنده عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ
الوَجْهَ) وفي رواية أخرى عنه بلفظ (إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلا يَلطِمَنّ
الوَجْهَ) وفي رواية أخرى عنه بلفظ (إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ
الوَجْهَ فإنَ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ).
ومن المعلوم بين أهل العلم أن هذه الأحكام تعمّ كل
إنسان آمن برئ غير محارب للإسلام والمسلمين، حيث دلّت آيات كثيرة وأحاديث صحيحة على
حرمة الاعتداء على أي ذات روح، بل على الجمادات والبيئة، فالمسلم يجب أن يكون صالحاً
مصلحاً نافعاً مفيداً غير مفسد.
فقد حرّم الإسلام ترويع الحيوانات وايذاءها، فقد روى البخاري ومسلم بسندهما
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ
سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ
سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ).
ورويا أيضاً عن ابن عمر أنه مرَّ بفتيان من قريش
قد نصبوا طيراً يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر
تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا! (إنّ رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لعَنَ من اتخذ شيئاً فيه الروح غَرَضَاً). ورويا أيضاً عن أنس قال: (نَهَى
رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أن تُصْبَرَ البَهَائِمُ).
وعقد مسلم باباً خاصاً للنهي عن ضرب الحيوان
في وجهه، ووسمه فيه، حيث روى عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ عليه حمار
قد وسم في وجهه، فقال: (لَعَنَ اللهُ الذي وَسَمَهُ)، وبهذا حافظ الإسلام حتى على جمال
الحيوانات وعدم إيذائها، ولذلك ورد في رواية لمسلم أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن
الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه، ولم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفجع
الطير، حيث روى أبو داود والحاكم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنّا مع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت
الحّمَّرة فجعلت تعرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (مَنْ فَجَعَ هذهِ بِوَلَدِهَا؟
رُدّوا وَلَدَهَا إليْهَا …).
فقد سدّ الإسلام باب التخويف والإرهاب والإيذاء سداً
محكماً، فحرّم كل أنواعه وأشكاله، سواء كان بطريق الجدّ، أو الهزل، ولم يكتف بالتحريم،
واللعنة، والبعد عن رحمة الله تعالى، والعذاب بالنار لهؤلاء المعتدين والمؤذين والمخوفين
المروعين، وإنما شرع عقوبات كالقصاص والحدود لأجل حماية دينِ الإنسان، ونفسِه، وعقلِه،
وعرضه، ونسله، وماله، وأمنه النفسي والاجتماعي، كما شرع عقوبات تعزيرية تكميلية تخضع
لاجتهاد القاضي لحماية هذه المقدسات ولتحقيق الأمن والسلام للجميع حتى للحيوانات بكل
الوسائل المتاحة.
4. تعليم النشء من الصغر على أن الترويع أو الإرهاب لم يكن من سمت السلف الصالح بل من صفات الغلاة:
حينما ندرس التاريخ الإسلامي بدءاً من الخلافة الراشدة نجد بوضوح أن الترويع
للآمنين الأبرياء لم يكن من صفات المؤمنين الصادقين، بل كان سمتهم الرحمة، وإذا كان
هناك من يستحق عقوبة فإن ذلك يتم عن طريق الإجراءات القضائية بضوابطها.
كما أن ميزان الحرب له خصوصيته ومع ذلك فقد فرض مجموعة
من الضوابط الأخلاقية والإنسانية في حالة الحرب (كما سيأتي).
وإذا وجد نوع من الترويع في التأريخ الإسلامي فإنه
يعود إلى بعض الجماعات المنحرفة الغالية أو المتطرفة، فقد قال أحد العلماء الكبار في
القرن الثالث الهجري، وقد انزعج كثيراً من أقوال بشار بن برد وأشعاره الإلحادية:
"أما والله، لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على
مضجعه".
كان ديدن الغلاة أن اتخذوا الاغتيال سبيلاً للقضاء
على مخالفيهم، فظهرت فرق منهم الخناقون كالمغيرية، والمنصورية في الكوفة أواخر الدولة
الأموية، يقول النَّوْبختي عن أبي منصور العجلي رئيس فرقة المنصورية: "إنه كان
يأمر أصحابه بخنق من خالفهم وقتلهم بالاغتيال، ويقول: "من خالفكم فهو كافر مشرك
فاقتلوه، فإن هذا جهاد خفي".
وذكر الجاحظ وسائل هؤلاء الخناقين وصورهم في القتل
والتعذيب عن طريق الخنق والتشميم، وعن طريق الحبال، والكلاب ونحوها.
وقد عاثت فرق الغلاة والباطنية فساداً في الأرض في
القرنيين الخامس والسادس الهجريين، فاغتالوا خيار الحكام والدعاة والعلماء، بل استفحل
أمرهم حتى دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دماء الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة المشرفة.
كما أن رأس الباطنية في القرن السادس الهجري (حسن
الصباح) قد أثار الرعب في العالم الإسلامي، واتخذ لنفسه قلعة سميت بقلعة الموت، وكوّن
فرقاً لاغتيالات بعض كبار العلماء والوزراء لنظام الملك وغيره.
· موقف
الإسلام من الغلو والتطرف:
لا نجد ديناً أو نظاماً أولى عنايته بمحاربة التطرف
والغلو والإفراط والتفريط في كل شيء مثل الإسلام، فقد شنّ عليه حرباً، وحذّر منه تحذيرات
شديدة، فقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب الذين غلواً في دينهم بغير حق، وترهبوا
أو ابتدعوا الرهبانية وترك الدنيا وطيـباتها، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}[المائدة:77]، وقال الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ).
قال الإمام ابن تيمية: "قوله (إياكم
والغلو في الدين) عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة
الحد …. والنصارى أكثر غلواً في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف".
وقد ذكر الرسول عاقبة وخيمة لأهل الغلو والتطرف وهي
الهلاك في الدين والدنيا حيث قال: (هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ) ثلاث مرات. قال الإمام
النووي: "أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم".
ولذلك دعا الإسلام إلى الوسطية، وجعل هذه الأمة أمة
وسطاً فقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]، ولذلك علمهم
منهج الوسطية في العبادات والعقائد والعادات والملبس والمأكل والمشرب كما سبق، وجعل
شعارهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}[البقرة:201]،
ودعا إلى التمتع بالدنيا وملذاتها بالحلال، وأنكر على من يقول بأن الزينة محرمة فقال:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الأعراف:32]، وقال أيضاً: {لَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[القصص:77].
وأوضح الرسول منهجه وطريقته في التعامل مع أمور الدنيا
حينما سمع أن بعضهم يريد الابتعاد عن أكل اللحم، وعن الزواج، والنوم في الليل فقال:
(مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ
وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
· بين
التطرف والتمسك:
من الضرورة الإشارة إلى أن التمسك بالكتاب
والسنة، أو بالأحوط من آراء الفقهاء ليس تطرفاً، وإنما التطرف هو التجاوز عن الحد الوسط
مع التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وقد يؤدي ذلك إلى التكبر أو الاعتداد
بالذات أكثر من لازم، فقد سمعنا بعضهم -وهم لا يزالون محتاجين إلى فهم النصوص الشرعية-
يقولون: هم -أي أبو حنيفة ومالك والشافعي ونحوهم- رجال، ونحن رجال!
ومن مظاهر التطرّف أيضاً: التزام التشدد على النفس،
والتشديد على الغير في غير محله، وإلزامهم بما لم يلزمهم الله به، في حين أن الإسلام
دين التيسير في الأحكام، والتبشير في الدعوة، قال صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا وَلاَ
تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا).
ومن مظاهره أيضاً: الغلضة والخشونة في التعامل،
وهم يخطئون في الاستشهاد بآية نزلت في حالة الحرب مع الأعداء {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ
غِلْظَةً}[التوبة:123].
ومن مظاهره أيضاً: سوء الظن بالناس، والتساهل في
غيبتهم من باب الجرح والتعديل، في حين أن من أخلاق الإسلام حسن الظن بهم والتماس الأعذار
لهم.
ومن مظاهره الخطيرة: السقوط في هاوية التفسيق والتكفير
للمخالفين لهم، وحينئذٍ تكون الكارثة حيث تُسقط عصمتهم وتُسفك دمائهم.
ثانياً: العناية القصوى بتوسيع دائرة الولاء
والأخوة الإسلامية لتشمل جميع أهل القبلة، مع السعي للتصحيح بالحكمة والموعظة الحسنة،
والاهتمام بنشر ثقافة المحبة والقبول بالآخر، وثقافة الجمال والتحضر.
ثالثاً: الجانب العقابي من خلال العقوبات
من الحدود والتعازير المرتبطة بما ينتج من الانحراف الفكري من التطرف والإرهاب.
وقد شرع الله تعالى عقوبتين خطيرتين لمن يدفعه الانحراف
الفكري إلى الإرهاب والعنف ضد المجتمع والدولة، هما:
· عقوبة
الحرابة والفساد في الأرض:
لقد شرع الله -تعالى- لقطع دابر الفساد في الأرض، ولمنع الاعتداء على أمن المجتمع
عقوبةً تعدّ على الإطلاق أشدّ العقوبات، إذ يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ
أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ
مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ}[المائدة:33].
ودون الخوض في التفاصيل الفقهية، فإنّ الفقهاء مجمعون
على حرمة الحرابة والفساد في الأرض، بل هي من الكبائر الموبقات، وهي جريمة موجهة نحو
المجتمع، وليست جريمة ذات طابع فردي؛ ولذلك ليس لأولياء المقتول الحق في العفو عن المحارب
المفسد، وإنما الحق للدولة من قبل القدرة عليهم، ثم اختلفوا هل هذه العقوبات موزعة
حسب نوعية الجريمة، فإن قتل فقط يقتل، وإن قتل وأخذ المال عنوة قُتِل وصُلِب، وإن أخذ
المال قُطِعَ فقط، وإن قام بالتخويف والرعب سُجن، أم أن الدولة مخيرة حسب المصالح في
اختيار أي عقوبة ما دامت الحرابة قد تحققت.
فالحرابة مبناها على الرعب، والإرهاب، وأنها خروج
مسلح، أو استعمال للقوة لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، والإخلال بالأمن والأمان والقانون،
والنظام العام، وأنها عادة تتحقق بخروج مسلحين يقطعون الطريق ويحدثون الفوضى، ويسفكون
الدماء، ويهلكون الحرب والنسل ويعتدون على إحدى الكليات المقصودة في الإسلام من الدين،
والنفس، والعقل، والمال، والنسل والعرض، قال -تعالى- في وصفهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى
فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ
الفَسَادَ}[البقرة:205].
ويدخل في مفهوم الحرابة: عصابات القتل، والخطف، والسطو
على البيوت أو البنوك، وخطف النساء للفجور بهنّ، واغتيال المسؤولين ابتغاء الفتنة واضطراب
الأمن، وإتلاف الزرع، وقتل المواشي والدواب، ومن يقوم بالتفجيرات بين المدنيين، ونحوها
من الجرائم التي تحدث الفزع داخل المجتمع.
· عقوبة
الاعتداء على الدولة وأمنها:
هذه العقوبة تسمى في الشريعة بحدّ البغاة، وهم الذين
يخرجون عن الإمام (الدولة الشرعية) خروجاً مسلحاً بتأويل، جاء في بدائع الصنائع:
"فالبغاة هم الخوارج، وهم قوم من رأيهم أن كل ذنب كفر، يخرجون على إمام أهل العدل،
ويستحلون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل، ولهم مَنعة وقوة".
ولكن الراجح هو أن الغلاة أعم من الخوارج الذين يستحلون
دماء المسلمين وأموالهم وسبي نسائهم، ويكفرون علياً وأصحابه وعثمان وطلحة والزبير،
أما البغاة فهم الخارجون خروجاً مسلحاً ضد الدولة بتأويل، مطلقاً، ولذلك قال ابن عابدين:
"الظاهر ... أن البغاة أعم"، وعلى عمومهم جمهورُ الفقهاء".
قال ابن قدامة: "وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون
على إمامته وبيعته: ثبتت إمامته ووجبت معونته، وأن من خرج عليه يعتبر باغياً وجب قتاله".
والخلاصة أن هؤلاء البغاة الذين خرجوا على الدولة
الشرعية بتأويل يجب بذل كل الجهود لتحقيق المصالحة العادلة، والسعي لاستجابة مطالبهم
المشروعة، فإن أبو ذلك أو قاموا بأعمال إرهابية وجب قتالهم بالإجماع، قال تعالى: {وَإِن
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات:9-10].
· الخوارج
مرجع كل تطرف ديني في الإسلام:
وإذا رجعنا إلى السنة المشرفة نرى خطورة الغلو في
الدين لدى الخوارج، وأن من صفاتهم الجرأة على الدين وعلى الصحب، حتى على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن أبي سعيد الخدري قال:
(بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ
أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ
لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ
صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ... آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ،
إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ،
وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ
أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ
بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ .
وفي رواية لمسلم عن جابر قال: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ،
وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ
مِنْهَا، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ، قَالَ: وَيْلَكَ وَمَنْ
يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ،
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَعْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ
فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ
أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)،
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي سعيد في قصة توزيع ذهب على أربعة نفر: (فَجَاءَ رَجُلٌ
كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ،
مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ، يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي
عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي؟ قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ -يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ، أَهْلَ الْإِسْلَامِ،
وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ).
وروى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم إلى علي بين أبي
طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ
خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ).
وفي رواية أخرى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ
إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا
صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ
لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ
الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ
الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ، مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ).
ويظهر من هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها مما ذكرتها
كتب الصحاح والسنن والمسانيد أن هؤلاء القوم تبنوا الفكر المتطرف، والغلو في الدين،
والتشدد في الحكم، مع تزكية أنفسهم بأنهم أفضل الخلق، وأن القرآن لهم فقط، وأن تأويله
لصالحهم، وأنهم مكثرون للصلاة، والصيام والقراءة ومبالغون فيها، وفي الاعتناء بمظاهرها،
ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفهم بأن هذه العبادات الظاهرية لن تتجاوز أماكنها،
بل إنهم شر الخلق والخليقة، فقد روى مسلم وغيره عن أبي ذر، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي -أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي- قَوْمٌ
يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا
يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ
وَالْخَلِيقَةِ).
حيث يدل هذا الحديث على أن الخيرية لا تتحقق
بكثرة الصلاة والصيام والقراءة وحدها، وإنما بالفكر المعتدل، والالتزام بالأخلاق والقيم
والمصاحبة لها، وبالتربية والتزكية.
وأشارت هذه الأحاديث الصحيحة إلى أن الخوض في قراءة
القرآن دون الفقه والفهم العميق يترتب عليه الإفراط والتفريط، والتشدد والتكفير.
وقد نقل كثير من العلماء الاجماع على وجوب قتالهم
إذا حملوا السلاح، فقال ابن تيمية: "والأئمة متفقون على قتال الخوارج المارقين"
ثم قال: "وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج، والروافض، إذا فارقوا جماعة
المسلمين، كما قاتلهم علي رضي الله عنه".
· وهذا
القتال مشروط بما يأتي:
1. أن تدعوهم الدولة إلى الحوار والمصالحة
وأن تستجيب لمطالبهم المشروعة، وأن ترفع عنهم الظلم البيّن إنْ وجد .
2. أن يرفعوا السلاح في وجه الدولة، إما
بالمنع من أداء واجبها، أو بالإقدام على القتل والنهب، والإرهاب والتخويف.
3. أن يمتنعوا عن الحوار، أو المصالحة والسمع
والطاعة، بأن يريدوا فرض رأيهم بالقوة، وحينئذ يجب قتالهم حمايةً للأمن والأمان، ووحدة
الدولة والمصالح العامةي
وبناء على ما سبق فإن الانحراف الفكري إذا أدى إلى
الارهاب والقتل والاعتداء؛ فإن الاسلام شرع مجموعة من العقوبات المفروضة نصاً واجتهاداً
في باب: الحرابة والفساد، وباب البغاة، ولكنها تحتاج إلى الاجتهادات المؤصلة للجرائم
الواقعة تحت لافتة الإرهاب الداخلي، والإرهاب الخارجي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله
ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم
تعليقات
إرسال تعليق