القائمة الرئيسية

الصفحات


مراتب القدر  

https://abhaskom.blogspot.com

وبعد أن تبين لنا أهمية الإيمان بالقدر وضرورته، فإنه لابد للمسلم من فهم حقيقة القدر وأركان القدر أو مراتبه (درجاته) كما هو معلوم لدى علماء المسلمين الذين بينوا هذه الأركان وأطلقوا عليها أحياناً مراتب وأحياناً درجات. 
ولابد من الإشارة إليها والإحاطة بما يجب منها وذلك لفهم حقيقتها وضبط معانيها، ولقد اتبع شيخ الإسلام منهج الوسطية فيها كما هو منهجه في كل أمر وجاءت مبثوثة في الكتب مبسوطة ومقتضبة ونحن إذ نشير إليها على جهة الإجمال بشرح ما خفي منها إسهاماً في نشر الوعي وإدراكاً منَّا أن فهمها سبب في زيادة في الإيمان وتثبيت له وهذه المراتب هي : 
1 ـ العلم        2 ـ الكتابة             3 ـ المشيئة        4 ـ الخلق 

أولاً : مرتبة العلم :


وهي تعني الإيمان الجازم بأن علم الله الأزلي الأبدي بكل شيء جملة وتفصيلاً، أولاً وأبداً ما كان وما يكون من صغير وكبير وظاهر وباطن سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أو أقواله أو بأفعال عباده وأقوالهم وأرزاقهم وآجالهم وكل ما يتعلق بكل مخلوقاته .

فعلمه محيط بما كان وما لم يكن لو كان كيف يكون وبما سيكون وبالموجود وبالمعدوم وبالمكن والمستحيل، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة أو أصغر منهما في السموات ولا في الأرض. وقد علم سبحانه جميع ما خلق.

قال تعالى: ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ:3] وقال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ [الطلاق:12] .

وقال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾[الأنعام:59] .
تشير الآيات السابقة إلى وجوب الإيمان بأن الله بكل شيء عليم وإلى أنَّ علمه محيط وسابق لكل شيء وغير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان كما وصف نفسه في القرآن الكريم حيث قال: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ﴾ [طه:52] . 
فعلمه أزلي أبدي كوصفه سبحانه وتعالى، فقد علم سبحانه ويعلم ما يخلق وما الخلق عاملون من قبل خلقهم ومن بعد خلقهم إلى يوم القيامة وإلى أبد الآبدين ويجب أن نؤمن بذلك كله إيماناً جازماً كما صرحت الآيات وكذلك الأحاديث والتي سنذكر بعضاً منها في المرتبة الثانية (الكتابة).

ثانياً: مرتبة الكتابة: 

وتعني بأنَّ الله كتب ما سبق في علمه في اللوح المحفوظ مقادير خلقه حتى تقوم الساعة، فما من شيء كان أو يكون إلا هو في كتاب مقدر قبل أن يكون. 
قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج:70] .

وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة:51] .

وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد:22]
فهذه الآية وضَّحت أن ما من مصيبة في الأرض من حرب أو زلازل أو فيضانات أو غيرها إلا وقد ذُكرت وكتبت بأمر في اللوح المحفوظ، وكذا أي مصيبة في الأنفس عامة كالأمراض والأوبئة والمنايا المهلكة إلا في ذلك الكتاب من قبل خلقها ومن قبل خلق الأرض والسماء وكل المخلوقات بخمسين ألف سنة كما بينت وشرحت ذلك السنة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. 
أما في السنة فيها عدة أحاديث منها: ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ».

وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض، وكتبه في الذكر كل شيء».

ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : «إن أول ما خلق الله القلم فقال: أكتب قال : رب ما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»
فهذه الأحاديث وغيرها صريحة بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب من مصيبة عامة أو خاصة إلا وهي في كتاب وأن ما أصاب الإنسان لم يكن يخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فقد جفت الأقلام وطويت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة.

وفي هذا كله هداية للمؤمن وتثبيت لقلبه ليسلم لله ويستسلم لمقاديره الكونية والشرعية ويعيش في هذه الدنيا راضياً ومطمئناً مطيعاً لله في مدلهمات الحياة وخطوابها: فلا يفرج بما آتاه الله فرحاً يخرجه عن الشكر ولا يحزن لما أصابه حزناً يخرجه عن الصبر فهو إمَّا في نعمة أو ابتلاءٍ أو ذنوب. نعمة ليشكر الله عليها وذنب يستغفر ربه منه وابتلاء يصبر عليه صبر الكرام والصبر الجميل الذي يثاب عليه الثواب الجزيل والعطاء الكثير في الكريم المنان. 

ثالثاً : مرتبة المشيئة :

وتعني الإيمان بمشيئة الله سبحانه النافذة في كل شيء سواء كان مما يتعلق بأفعاله أو يتعلق بأفعال خلقه،كما تعني الإيمان بقدرته الشاملة لكل شيء، فما وجد موجود ولا عدم معدوم من صغير وكبير وظاهر وباطن في السموات والأرض إلا بمشيئته سبحانه وتعالى سواء كان ذلك من فعله تعالى، أو من فعل مخلوقاته.
قال تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾ [فاطر:44] . 
فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حركة ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيئته سبحانه وتعالى . 
وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى : ﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف:23]، وقوله تعلى : ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الإنسان:30]، ومنها قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [هود:118].

وكذلك قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾ [البقرة:253].

وكذلك قوله تعالى : ﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم:27] وقوله تعالى : ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ [الرعد:26] .

فهذه الآيات وغيرها تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون شيء في الوجود إلا بمشيئته سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
وهنا وقفة مهمة ينبغي أن تُتأمل؛ ينبهنا إليها العلماء حينما قسموا الإرادة إلى كونية وشرعية، والمقصود هنا أنه لا يمكن أن يكون في ملكه سبحانه إلا ما يريده كوناً وقدراً، أي (الإرادة الكونية). 
أما في الإرادة الشرعية فيمكن أن يكون في الأرض خاصة بين بني الإنسان المخلوقين للابتلاء ما لا يريده شرعاً، كأن يأمرهم بالإيمان فلا يقبلوه، بل يتنكبوا الطريق المستقيم مثل  أنهم لا يستجيبوا لما يريده الله شرعاً ويحبه لهم من الإيمان فيكون ما لا يريده أي ما لا يحبه لهم من الكفر ولكن هذا لا يخرج عن إرادته الكونية حينما اقتضت إرادته الكونية أن يخلق هذا الإنسان للامتحان واقتضت إرادته سبحانه أن يخلق الجنة والنار. 
وهذه المسألة من أخطر المسائل في الاحتجاج بالقدر عند من لا يفرق بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا ما لا يعرف هذا الإنسان وقد تؤدي به إلى الكفر والخروج عن الملة.
ومن هنا قرر العلماء أن الإرادة الكونية تعني المشيئة.والإرادة الشرعية تعني المحبة فالأولى في مثل قوله تعالى : ﴿ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ﴾[هود:34]
والثانية بينتها الآية الكريمة حيث قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء:27]. أي والله يحب أن يتوب عليكم، وقال سبحانه : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾[البقرة:185] وعلى هذا فإنَّ الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع سواء أحبه الله أم لم يحبه ويتعين فيها وقوع المراد في حين تتعلق الإرادة الشرعية فيما أحبه سواء وقع أم لم يقع ولا يتعين فيها وقوع المراد.

هنا يرتفع اللبس عمن يحتج بالقدر وتقوم عليه الحجة، فصدق الله العظيم حيث يقول : ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام:149] ، ويقول تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [الشورى:16].

رابعاً : مرتبة الخلق

وتقتضي هذه المرتبة الإيمان بالله خالق كل شيء من صغير وكبير وظاهر وباطن، فخلقه شامل لأعيان هذه المخلوقات وصفاتها وما يصدر عنها من أقوال  ً وأفعال، وكل ما سوى الله مخلوق موجد من العدم، كائن بعد أن لم يكن ، وقد دلت على هذه المرتبة الكتب السماوية، وأجمع عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام واتفقت عليها الفِطر، والعقول السليمة، ومن هذه الأدلة قوله تعالى : ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر:62]، وقوله تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الملك2] . وقوله تعالى : ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾[الصفات:96].

ومن السنة : ما رواه البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يصنع كل صانع وصنعته»(11), فأفعال العباد داخلة في عموم خلقه تعالى وهي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً ولكنها من العبد- كما يقرر العلماء- فعلاً وكسباً، فالله هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها.

وهذا عين ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة(12) بقوله : "وأما جمهور أهل السنة المتبعون لسلف الأمة: فيقولون: إن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله مفعول لله، لا يقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل المفعول".


هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع